شهدت ساحة العروض بمحافظة عدن (جنوب اليمن)، ومدينة المكلا عاصمة محافظة حضرموت (شرق البلاد)، مهرجانات حاشدة ل «التصالح والتسامح» في ذكرى 13 كانون الثاني (يناير) 86 وهدفت المهرجانات التي شارك فيها مئات الآلاف من أبناء المحافظات الجنوبية، إلى طي صفحة الماضي وإغلاق ملف المواجهات الدامية، التي تفجرت بين أجنحة النظام الحاكم في الشطر الجنوبي من اليمن صبيحة ذلك اليوم، وأدت إلى مقتل وجرح عشرات الآلاف من اليمنيين، وتشريد ما يقرب من ربع مليون، إضافة إلى الدمار الواسع في المنشآت العامة والخاصة في مدينة عدن وبعض المدن الجنوبية الأخرى. وأكد المنظمون والمشاركون في هذه المهرجانات، أن موضوع «التصالح والتسامح» بين فرقاء الجنوب، أصبح حقيقة ملموسة وأن أبناء المحافظات الجنوبية تجاوزوا خلافاتهم القديمة، وشددت الكلمات التي ألقيت من قبل قيادات جنوبية، على المضي قدماً في استعادة دولة الجنوب، ورفض المشاركة في الحوار الوطني المرتقب، والذي يعول عليه في معالجة مشاكل اليمن الشائكة والخطيرة، وفي مقدمها «القضية الجنوبية» ومشكلة صعدة، وردد المشاركون في المهرجانات التي ارتفعت فيها أعلام دولة الجنوب سابقاً، شعارات تدعو إلى انفصال جنوب اليمن عن شماله، وتؤكد مواصلة النضال والحراك السلمي حتى يتحقق هدف استقلال الجنوب. غير أن مصادر في محافظة عدن أكدت ل «الحياة»، أن هذه المهرجانات لا تمثل كل الفصائل الجنوبية، بمقدار ما تمثل اثنين من فصائل الحراك الجنوبي، الأول هو الجناح التابع لنائب الرئيس اليمني السابق في دولة الوحدة علي سالم البيض، والآخر هو فصيل حسن باعوم الذي انشق أخيراً عن البيض، وهذان الفصيلان ينتميان إلى ما كان يعرف في مواجهات 13 كانون الثاني 86 بجناح «الطغمة»، الذي خاض المواجهات حينذاك مع جناح «الزمرة» بقيادة الرئيس الجنوبي السابق علي ناصر محمد، إضافة إلى مشاركة بعض الشخصيات الأخرى مثل الجهادي السابق طارق الفضلي. مؤشرات ودللت المصادر على ذلك بجملة من المؤشرات، وقالت إن المشاركين في مهرجان عدن حملوا فقط صور علي سالم البيض، ولم تظهر أي صور للقيادات الجنوبية الأخرى مثل علي ناصر محمد وحيدر العطاس، وأن القناة الفضائية التابعة للبيض «عدن لايف» التي كانت تنقل فعاليات المهرجان، تحولت عن المنصة بمجرد صعود باعوم إليها، حتى لا تنقل كلمته أو يظهر في المهرجان مع قيادات أخرى مناوئة للبيض، واكتفت بتصوير الحشود المشاركة في المهرجان، ولفتت المصادر إلى أنه من المفترض في حال تحقق «التصالح والتسامح» أن لا تتكرر مثل هذه المناسبة وهذه المهرجانات، منذ عام 2007 وحتى اليوم. وتقول المصادر ذاتها إن الحديث عن «التصالح والتسامح»، ليس له معنى طالما لم تظهر خلال المهرجانات حتى أسرة واحدة من أسر الضحايا ومن أي طرف، لتتنازل عن حقها وتعلن العفو عن القتلة والجلادين، وشددت المصادر أيضاً على أن هذه المهرجانات تقام من طرف واحد فقط هو «الطغمة»، بينما الطرف الآخر في مواجهات وأحداث 13 كانون الثاني والمعروف ب «الزمرة»، غير موجود وغير مشارك في المهرجانات، وبالتالي فإن ما يحدث ليس له علاقة بالتصالح، طالما هذه الفعاليات تنظم من طرف واحد فقط. وكان أبناء الشطر الجنوبي من اليمن، استيقظوا صبيحة 13 كانون الثاني 86 قبل 27 عاماً، على رائحة الدم والبارود، وشاهدوا بأعينهم جثث وأشلاء ضحايا الصراع على السلطة، وهي تغطي شوارع مدينة عدن (عاصمة الجنوب حينذاك)، والتي قسمها طرفا الصراع إلى شطرين: الأول يسيطر عليه الرئيس وقتها علي ناصر محمد وأتباعه الذين عرفوا ب «الزمرة»، في حين خضع الشطر الآخر لسطوة «الطغمة» بقيادة علي عنتر وعبدالفتاح إسماعيل وعلي سالم البيض. يومئذ دوّن الرفاق بأسلحتهم، تاريخاً موغلاً في الوحشية، لواحد من أكثر الخلافات السياسية عنفاً ودموية في التاريخ الإنساني، وشهدت مدن الجنوب اليمني أساليب جديدة ومبتكرة لتصفية الخصوم، بل وتصفية الأبرياء من المواطنين، بتهمة الانتماء جغرافياً إلى محافظات القيادات السياسية والعسكرية المعادية، من خلال الفرز المناطقي والهوية الشخصية، لاصطياد أتباع الفريق المهزوم في تلك الأحداث المفجعة. ويؤكد شهود عاصروا أحداث 13 كانون الثاني 86، أن الشوارع والمعتقلات امتلأت بجثث القتلى، وأن الكلاب والنسور والغربان كانت تأكل من تلك الجثث، التي بقيت مرمية في الشوارع لأيام عدة، ويقولون إن مشاهد الجثث والدماء ستظل عالقة في ذاكرة المعاصرين لتلك الأحداث، إضافة إلى بشاعة التعذيب الجسدي للمعتقلين والمصابين في المستشفيات، وإحراق بعض أعضائهم قبل تنفيذ عمليات القتل، التي طاولت أطفالاً وشيوخاً أبرياء، وكان يستخدم في بعضها آلات حادة تخترق الجسم. تضارب معلومات وتتضارب معلومات المصادر حول عدد ضحايا أحداث 13 كانون الثاني 86 الدموية، إلا أن أكثر التقديرات اقتراباً من الحقيقة، تشير إلى مقتل نحو 15000 شخص في تلك الأحداث، إضافة سقوط 17000 ألف جريح، وأفضت إلى هزيمة جناح «الزمرة»، بقيادة الرئيس علي ناصر محمد، الذي غادر جنوب اليمن ومعه قوات عسكرية وعشرات الآلاف من النازحين، باتجاه الشطر الشمالي من البلاد، لينفرد بالسلطة جناح «الطغمة» الذي تزعمه علي سالم البيض. يقول سياسيون جنوبيون، إن موروث 13 كانون الثاني 86 لا يزال حاضراً بقوة في المشهد السياسي الراهن في اليمن عموماً وجنوبه في شكل خاص، وتؤكد المصادر التي تحدثت ل «الحياة»، أن بشاعة ما حدث في ذلك اليوم تحديداً، وما تلاه من ممارسات وتصفيات امتدت حتى قيام الوحدة اليمنية في 22 أيار (مايو) 90، حفر في نفوس وعقول الضحايا من مختلف الأطراف، الأمر الذي أبقى الجراح مفتوحة طوال هذا الوقت، وأفشل - حتى اليوم - كل الجهود التي تبذل من شخصيات وأطراف جنوبية كثيرة، لطي صفحته وفتح صفحة جديدة في علاقات الجنوبيين «زمرة» و «طغمة». ووفق السياسيين الجنوبيين، فإن الجهود التي تبذل منذ سبع سنوات لتجاوز أحداث 86 تراوح مكانها، نظراً إلى أن أطراف المواجهة عجزوا عن تجاوز الآثار النفسية والاجتماعية لتلك الأحداث، كما عجزوا عن التخلص من الرغبة الدفينة في الانتقام والثأر، ويرون أن دعوات «التصالح والتسامح»، التي انطلقت لأول مرة في 13 كانون الثاني 2006 وتتكرر مطلع كل عام، أصبحت مناسبة للتذكير بمآسي تلك الأحداث وتجديداً لأحزانها، وأن بعض الممارسات التي ترافق دعوات التصالح، تعكس حجم التمترس القائم ومدى تربص كل طرف بالآخر. ويعتقد هؤلاء السياسيون أن سببين رئيسين مهمين وراء فشل جهود «التصالح والتسامح»، ويقولون إن السبب الأول يتصل بمصدر تلك الجهود والدعوات، والتي تأتي من غير قيادات الأطراف الرئيسة في الصراع الذي حدث حينذاك، ما يعني أن القيادات المتصارعة لم تصل بعد إلى قناعة كاملة بالانخراط في صلح عام يتجاوز سلبيات ومشاكل وأحداث الماضي، ويشيرون إلى أن الصراع على الحكم يمثل حجر الزاوية للمواقف المتصلبة لأعداء الأمس. وأوضحت المصادر أن الموجودين في الحكم حالياً، وغالبيتهم تنتمي إلى جناح «الزمرة»، يحرصون ويعملون على بقاء خصوم الأمس في جناح «الطغمة»، خارج دائرة التأثير والفعل السياسي في الوقت الراهن، حتى لا يأتي من ينازعهم السلطة تحت لافتة «التصالح والتسامح»، سواء بقي اليمن موحداً أو حدث الانفصال، وفي المقابل يرى الطرف الآخر أنه الأحق بالحكم والنفوذ، وهو الأكثر تشدداً في تبني الدعوات الانفصالية و «فك الارتباط»، وبالتالي يخطط كل طرف لمواجهة جديدة، حتى وهو يدعو إلى الصلح وطي صفحة الماضي. أما السبب الثاني في فشل دعوات «التصالح والتسامح»، وفق السياسيين الجنوبيين، فيتمثل في أن هذه الدعوات والجهود تستهدف الجلادين فقط، ومن كانوا السبب في سفك الدماء وقتل الأبرياء، وكأنها تهدف فقط إلى تأمين القتلة وحمايتهم، لأنها تتجاهل الضحايا تماماً، ولا تعير أي اهتمام لمن كانوا وقوداً للصراعات السياسية في جنوب اليمن سابقاً، سواء في أحداث 13 كانون الثاني وما بعدها حتى قيام الوحدة، أو في الصراعات السابقة بين جبهة التحرير والجبهة القومية، ولذلك فإن دعوات «التصالح والتسامح» التي تتكرر منذ سبع سنوات مطلع كل عام، لا تعني ولا تراعي من يفترض أنه المستفيد الحقيقي منها. يقول كثر من أبناء المحافظات الجنوبية، إنهم يؤيدون دعوات «التصالح والتسامح» بين مختلف المكونات والفصائل الجنوبية، وإنهم مع تجاوز كل آثار الصراعات الماضية ومآسيها، غير أن هذا الأمر لا يتحقق فقط من خلال المهرجانات والخطابات، بمقدار ما يحتاج أولاً إلى معالجة آثار تلك الصراعات، من خلال تطييب خواطر أسر الضحايا والاعتذار لهم من جميع الأطراف، وفي المقدم القيادات السياسية والعسكرية التي كانت تدير تلك الصراعات والمواجهات، وكانت تصدر الأوامر بقتل الأبرياء وتصفية الخصوم في المعتقلات، وهذه القيادات معروفة للجميع وغالبيتها تسعى من جديد للعودة إلى حكم الجنوب من بوابة «الحراك». ويؤكدون ل «الحياة»، أن الآلاف من الجنوبيين تم إخفاؤهم قسراً خلال مواجهات 86 الدموية، ولا يزال مصيرهم مجهولاً حتى اليوم، ويقولون إن بين هؤلاء المخفيين قسراً ضباطاً وجنوداً وقيادات سياسية وعلماء، تمت تصفيتهم في السجون والمعتقلات من دون إبلاغ أسرهم بمقتلهم، أو العثور على دلائل تؤكد وفاتهم في شكل قاطع، غير تأكيد بعض الأشخاص والشهود الذين نجوا من تلك التصفيات، في حين لا يزال مصير آخرين مجهولاً تماماً، ولا تعلم أسرهم ما إذا كانوا قد قتلوا في تلك المواجهات، أم أنهم لا يزالون أحياء ومخفيين في مكان لا يعلم به غير أطراف الصراع في ذلك الوقت. ملف المخفيين وأوضح عدد من أبناء المحافظات الجنوبية، أن ملف المخفيين قسراً لا يزال مفتوحاً، ضمن الملفات الخاصة بجرائم الكثير من القيادات الجنوبية، وأن محامين وحقوقيين ومنظمات محلية ودولية، يتابعون هذه الملفات والقضايا ولن يغفلوا عنها، مشيرين إلى أن «التصالح والتسامح» يحتاج أولاً إلى كشف الحقائق المتعلقة بالمخفيين قسراً، وإثبات مكان دفن من قتلوا أو تمت تصفيتهم، وإعادة من هم أحياء إلى أسرهم، كمدخل سليم يمسح آثار تلك الأحداث الدموية، ويمهد للتصالح والتسامح الذي يعالج مخلفات الماضي، ويفتح صفحة جديدة في علاقات القتلة بالضحايا، وهو الأهم من تطبيع العلاقة بين الفصائل والأجنحة المتصارعة. وعبروا عن أمنياتهم بأن يتحقق التصالح فعلياً، وأن تتحقق فيه العدالة التي تمحو الأحزان والأحقاد التي ترسبت في نفوس المواطنين، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يتحقق إلا باعتراف الجناة بجرائمهم أولاً، ودعوة المظلومين والضحايا من كل المحافظات للاقتصاص لأنفسهم من القتلة أو العفو عنهم، وتعويض أسر الضحايا عن كل ما لحق بهم من حرمان وضرر كبيرين، وليس من خلال مهرجانات التصالح السياسي التي تسعى إلى تحصين القتلة واستغفال الضحايا.