صعد اقتراح «القانون الأرثوذكسي» إلى الواجهة فجأة، ليصبح الخيار المفضل، إن لم يكن الوحيد، عند القوى المسيحية الرئيسة، بعدما كان وضع جانباً كنكتة سمجة من جانب بعض أيتام النظام البعثي في لبنان. غير أن صعوده المفاجئ كان مرتكزاً على عاملين متناقضين، حتميته واستحالته. فالقانون الأرثوذكسي بات حتمياً لمن يراقب تطور الساحة المسيحية منذ 2005. فصعود الظاهرة العونية لم يكن مجرّد خطأ يصححه التاريخ، بل نمت الظاهرة وتطورت لتتعدى خصومها، الذين باتوا مقتنعين بأن لا سبيل إلاّ بتجييش طائفي مضاد لمحاربتها. والمثل على ذلك، الإثارة العنصرية لموضوع النازحين السوريين من جانب التيار العوني والتي التحق بها بعض الوجوه الشابة لقوى «14 آذار»، متخوفة من أن «تكون الفرصة سانحة أمام السوري للتخلص من عبئه»، أي «الفلسطيني» (نايلة تويني، النهار، 31-12-2012)، أو موضوع بيع الأراضي الذي أثاره البطريرك الماروني وقوننه المعارض الأول للقانون الأرثوذكسي. وهذا الاقتراح ليس إلاّ التجسيد لهذا التنافس الابتزازي. فقد ابتز عون «حزب الله»، مهدداً بسحب دعمه للمقاومة، وحاول جعجع ابتزاز «تيار المستقبل» باسم محاربة ابتزاز عون، وابتزت «الكتائب» الطرفين، مهددة بسحب دعمها لكليهما. بهذا المعنى، القانون الأرثوذكسي ليس إلا مباراة في الابتزاز، ربحها التيار العوني. كما أنّ حتمية هذا القانون كامنة في الكلام اليومي المتنامي منذ التسعينات، والذي تفاقم منذ 2005، عن تهميش المسيحيين وسيطرة المسلمين. فبعيداً من الخطابات السياسية الرسمية، هناك ثقافة ندب وخوف انتشرت عبر وسائل الإعلام كافة، خلقت أو مأسست لحالة هلع لا يعبّر عنها إلا هذا القانون الانتخابي. فالأخبار عن تسلل «الغريب» إلى المناطق المسيحية لم تعد تحصى، من أخبار معاناة سكان بعض المناطق المسيحية من كتل العمال السوريين أو الأكراد إلى أخبار استبدال سائقين لبنانيين بغيرهم من سوريين وأكراد، والصدامات بينهم، «ما أدخل الذعر إلى نفوس الركاب الذين سرعان ما يترجلون من الباصات» (وفق جريدة «النهار» في 5-1-2013)، وصولاً إلى التقرير عن قمع المسيحيين على إحدى شركات الطائرات لمجرّد كونهم مسيحيين، وهو تقرير من إخراج جو معلوف، كان الرد من محطة «أم تي في» على منافستها العونية. وإذا كان هذا التلميح عن الخطر الداهم لم يكف، فقد قالتها بصراحة المحطة العونية في إعلانها المدافع عن القانون باسم بقاء المسيحيين. بهذا المعنى، فالقانون الأرثوذكسي لم يأت من خارج كل سياق، بل بالعكس، يمتد تاريخه لعقود حضّرت لهذا الانحدار. وهكذا فالمشروع يجسّد النزعات الخفية للطوائف اللبنانية في البحث عن صفاء مذهبي لا يعكّره تدخل الشريك وإغراء حالة الطلاق التي لا يتجرأ أحد على المطالبة بها. وعلى رغم الصدمة التي شكّلتها المطالبة المسيحية بهذا القانون، فإن تاريخه يعود إلى مرحلة تهميش المسيحيين بعد الحرب، كما أنه يستكمل الاحتقانات الطائفية التي بدأت منذ 2005، ويعبّر عن صعود الإحساس الأقلوي مع انطلاق الثورات العربية. لكن حتمية هذا القانون جاءت مقرونة باستحالته. فالقانون لم يأت كنتيجة لعملية مزايدات طائفية مكشوفة وصريحة فحسب، بل لكونه مستحيلاً. هكذا قام فرض هذا القانون من جانب القوى المسيحية الرئيسة على إدراكها أن الحليف المسلم سيرفضه، هذا إن لم تكن هي تتمنى هذه النتيجة. وهذه الاستحالة ليست مجرّد تكتيك سياسي، بل الشرط الأساسي لتلك المطالب الجنونية. ففي وجه اعتراض سياسي، لم تتراجع تلك القوى وتساوم على قانون قد يحظى بتأييد أوسع، بل تصلّبت في مطالبها، ذاهبة نحو المثالثة أو خيارات أكثر جنونية. في هذا السياق، ينمّ سؤال النائب عون عن سبب خفض عدد النواب ونزع الصلاحيات في اتفاق الطائف إمّا عن إرادوية تعتبر التاريخ مجرّد إزعاج، أو عن إدراك أن لا معنى للكلام ولا سقف للمطالب كونها لن تتحقق. بهذا المعنى، فالقانون الأرثوذكسي هو «لا-حدث»، قائم على استحالته وتعبير عن هذه الحالة، و «الحدث»، بات يُحضّر له منذ سنوات إن لم يكن عقوداً. وتناقضات هذا القانون ليست إلاّ انعكاساً لهاتين الميزتين المتناقضتين. فهو هروب من الهاجس الديموغرافي من خلال ضرب المناصفة بإسم المثالثة. وهو هروب من الانقسام المسيحي من خلال تكريسه قانونياً من خلال النسبية. وهو ابتزاز للشريك المسلم من خلال قطع أي علاقة ممكنة معه، بالتالي أي ابتزاز مستقبلي. وهو محاولة لاسترجاع الهيمنة من خلال ابتزاز يمارسه الضعيف. لم يفضح هذا القانون «طائفية» المسيحيين أو «استكبار» المسلمين، أو عملية تهميش المسيحيين أو تجييشهم الطائفي فحسب، بل فضح رخاوة الخطاب السياسي في لبنان. فتحول قانون كهذا إلى مقترح أساسي لخوض الانتخابات ينطوي على دلالة مفادها أن الخطاب السياسي أفلت من الواقع، ليصبح محرراً من أي قيد تفرضه الأخلاق أو الفعالية أو الواقعية، ومن أي محاسبة، أكانت انتخابية أم سياسية. «القانون الأرثوذكسي» أخذ مكانه في متحف الخطاب السياسي الفارغ، إلى جانب «تلازم المسارين» بعد اغتيال الحريري أو «المقاومة» بعد الثورة السورية أو «العيش المشترك» بعد 7 أيار أو «العبور إلى الدولة» بعد «الكتائب» اللبنانية، كإشارة لحالة الانفصام السياسي وكاعتراف بأن الواقع أصبح محكوماً بمعايير لم تعد تضبطها السياسة المحلية. وهذا القانون إنما هو الترجمة السياسية ل «مريم كلينك»، أي أنه نوع من «النقد الاجتماعي» المعاكس. فكما كان صعود كلينك الفني إدانة ونقداً لعالم الفن، وإن كانت المغنية لا تقصد هذا النقد، فصعود هذا القانون نقد لعالم السياسة. ففي لحظة إبداع أصبح الواقع يشبه الفن، وتعرّت القوى المسيحية، مستقوية بالرخاوة السياسية لتقدم عرضاً لعوراتها وعورات السياسة في هذا البلد. وكون الخطاب انفصل عن الواقع، لم تبق لهذا التعري حدود.