لا يمر أسبوع من دون أن نسمع أن المسؤول العراقي الفلاني قاضى أو هدد بمقاضاة الصحافي الفلاني أو الكاتب الفلاني أو وسيلة الإعلام الفلانية لنقلها معلومات «غير دقيقة» عنه أو «تشويهها» لسمعته أو ما شابه ذلك. فقد أقدم رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي على مقاضاة ناشر موقع «كتابات» الإلكتروني لنشره معلومات قيل إنها غير دقيقة حول بعض تصرفات مدير مكتبه، لكنه اضطر تحت ضغوط كثيرة لسحبها، وبعد أن أدرك أن دعوى كهذه لن يربحها سياسياً حتى وإن ربحها قانونياً على رغم أن الأخير غير ممكن بسبب عدم وجود قانون دولي ينظم عمل الصحافة الإلكترونية التي لا ترتبط أو تتأثر بالحدود الوطنية. كما رفع نائب رئيس الجمهورية، عادل عبد المهدي، دعوى في سورية ضد الكاتب المعروف حسن العلوي لنشره معلومات قيل إنها غير دقيقة في كتابه الأخير «شيعة السلطة وشيعة العراق» حول تدخل عبد المهدي لتعيين أقارب له في وظائف عامة. كذلك قاضى وزير الخارجية، هوشيار زيباري، النائب سامي العسكري في المحاكم العراقية لاتهام الأخير له بإقامة «ليال حمراء» في رحلاته الخارجية. وعلى رغم أن زيباري ربح الدعوى، فالغرامة المالية المفروضة على العسكري لم تكن باهظة إذ لم تتجاوز الألفي دولار لكنها ستجعله يفكر ملياً بحجم الغرامة التي ستفرض عليه قبل أن يطلق أي تصريح مثير للجدل. كما نقلت وسائل الإعلام عن الرئيس جلال طالباني ورئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني تهديدهما بمقاضاة صحيفة كردية أعادت نشر تقرير للكاتب الأميركي مايكل روبين، تحدث فيه عن الثروة الشخصية لكلا الزعيمين والتي قدرها بمليارين وأربعمئة مليون دولار. وآخر المهددين بالمقاضاة مرافق رئيس الوزراء العراقي، قاطع الركابي، الذي هدد في بيان أصدره بمقاضاة شخص كتب مقالاً اتهمه فيه بالتواطؤ مع (مستثمر) عراقي - أميركي أخذ أموالاً من عراقيين أميركيين بحجة استثمارها في العراق لكنه لم يستثمرها ولم يعدها إليهم كما أشيع. في العادة، لا يلجأ السياسيون في البلدان الديموقراطية إلى مقاضاة وسائل الإعلام، إلا في حالات نادرة جداً، لأن ذلك يعتبر موقفاً معادياً لحرية الرأي لا يجرأون على اتخاذه لأنه مضِر بهم سياسياً. وبدلاً من اللجوء إلى القضاء، يردّون على المزاعم بنشر الحقائق وتوضيح الغوامض للناس، فالكلمة تقابل بالكلمة لا بالمحاكمة، ومن ينقل معلومة خطأ بإمكانه أن يعتذر ويصححها. وكثيرون ممن لجأوا إلى القضاء خسروا سياسياً، بل انتهى الأمر ببعضهم إلى دخول السجن بعد أن كان هدفهم الانتصار لسمعتهم ومحاربة خصومهم، لكنهم أغفلوا أن القضاء غير مضمون النتائج حتى وإن بدا «الحق» واضحاً لهم. وأذكر هنا سياسييْن بريطانييْن هما اللورد آرتشر، الروائي الشهير ونائب رئيس حزب المحافظين السابق، الذي لجأ إلى القضاء لإنقاذ سمعته بعد أن نشرت صحيفة «ديلي ستار» تفاصيل عن حياته الخاصة، وقد كسب الدعوى في بادئ الأمر وغُرِّمت الصحيفة نصف مليون جنيه تبرع بها آرتشر لجمعية خيرية، لكن القضية ظلت تلاحقه حتى عادت إلى المحكمة مرة أخرى بعد 14 سنة ليخسرها وينتهي به الأمر في السجن وخسارة الكثير بما في ذلك لقب اللورد. أما الثاني فهو الوزير السابق جونثان آتكينز الذي قاضى صحيفة «الغارديان» لأنها نشرت معلومة تقول إن رجل أعمال عربياً دفع أجور بقائه في فندق «ريتز» في باريس، وهذه تعتبر مخالفة صريحة للقواعد الأخلاقية للمسؤولين بحسب القانون البريطاني. لكن «الغارديان»، بالتعاون مع تلفزيون «غرنادا»، حصلت على أدلة وأشرطة فيديو برهنت على عدم صحة الأدلة التي قدمها أيتكنز للمحكمة، وانتهى في السجن أيضاً وخسر كل شيء، حتى أن أفراد عائلته تبرأوا منه. المستغرب أن أيتكنز، وبعد أن أكمل محكوميته بدأ بدراسة الأديان ثم تحول إلى واعظ لتقديم صورة جديدة عن نفسه ودفع الناس لنسيان الماضي. وعادة ما تقتصر دعاوى التشهير على الأثرياء الذين لديهم الأموال والأسرار التي يريدون لها أن تبقى طي الكتمان. فقد اشتهر امبراطور الإعلام البريطاني الراحل روبرت ماكسويل بتلويحه باستخدام القضاء لإخافة منتقديه العارفين بشؤونه ولم تظهر فضائحه المالية وممارساته غير المهنية إلا بعد أن عُثر عليه ميتاً في يخته الخاص في عرض البحر، وقيل وقتها إنه ربما انتحر بعد إفلاس شركاته واضطراره لاستخدام أموال معاشات الموظفين لتسديد ديونه. المشكلة في اللجوء إلى القضاء في قضايا التشهير تحديداً تكاليفه الباهظة. لذلك لا يلجأ إليه إلا الأثرياء جداً. والقوانين الديموقراطية عادة ما تفترض حسن الظن في العمل الإعلامي. وإن كان هناك بعض الشك في الأدلة المقدمة للمحاكم فإن الذي يحصل على «منفعة الشك» هو الإعلامي لأنه يعمل من أجل الصالح العام وهدفه الأول كشف الحقيقة، حتى وإن أخطأ في الوصول إليها. فالإعلامي كالمحقق، يسعى إلى الحقيقة وقد يصدِّق أحياناً معلومات قد لا تكون دقيقة، لكنه يواصل سعيه. وعلى رغم أن بعض العاملين في وسائل الإعلام لا يتوخون الدقة في ما ينشرونه، خصوصاً في الصحافة الأليكترونية غير المنظمة بقانون حتى الآن. لكن التهديد المتواصل للسياسيين العراقيين بالقضاء ضد كل من تفوه بكلام ناقد عنهم أمر مقلق حقاً ومضر بالديموقراطية وحرية الصحافة والرأي ولا يُفسر الا كمحاولة لإسكات الأصوات المنتقدة وإخفاء الحقائق. وهو يكشف أيضاً عن ذوات متضخمة عند البعض ونرجسية مفرطة عند آخرين تضيق ذرعاً بالنقد. وسائل الإعلام مطالبة قانوناً وأخلاقاً بتوخي الدقة في أخبارها وتقاريرها، لكن السياسيين أيضاً مطالبون بمزيد من سعة الصدر. وإذا كان الأثرياء يدفعون من مالهم الخاص فمن الذي يدفع تكاليف دعاوى السياسيين المتزايدة؟ إن كانت تُدفع من المال العام فهذا يجب النظر فيه جدياً من القضاء والإعلام. إن هناك ثمناً لدخول الحياة العامة وهو التعرض للنقد والمتابعة الصحافية ومن يختار التصدي للحياة العامة عليه أن يدفع هذا الثمن. أما من أراد الهدوء وراحة البال فعليه أن ينصرف إلى حياته الخاصة وعندئذ لن يهتم به أحد. * كاتب عراقي