التقدم الذي أحرزه الثوار على الأرض في سورية يُبرز في شكل جلي في أنه ضيّق الخناق على تحركات بشار الأسد، إذ لم يجرؤ على الخروج من قصره، الذي اختبأ فيه منذ أكثر من عام، إلا إلى صلاة العيدين الصغير والكبير، بل لوحظ أنه، لشدة جذعه، صلى العيد الصغير في مسجد صغير مغمور، يبعد عن قصره مئات الأمتار، وسلّم قبل الإمام، ثم غادر المسجد مسرعاً. الأسبوع الماضي، بعد غياب طويل عن الإعلام، سعى إلى إثبات وجوده في حركة مسرحية هزلية مكشوفة، عبر إلقاء خطاب موجه إلى مؤيديه، ولشدة خوفه وجبنه اختار دار الأوبرا، لقربها كثيراً إلى قصره، وكان من الطبيعي أن يقتصر الحضور على صفوة مختارة بعناية من عناصر الحرس الجمهوري والأمن من الطائفة العلوية مع عائلاتهم، كانت مهمتهم الهتاف والتصفيق حتى من دون فهم ما يقول، حتى أنهم صفقوا له بحرارة، في إحدى المرات، حين تلعثم في كلمتي ضباط وصف ضباط، وبعد انتهاء الخطاب، في حركة مسرحية، تجمعوا حوله، وهتفوا له، ليفتضح أمرهم أنهم من عناصر الأمن «شبيحة للأبد لأجل عيونك يا أسد». أطلق النظام على خطابه هذا اسم «خطاب الكرامة»، ذاك الخطاب الذي لم يجد فيه الشعب السوري والمجتمع الدولي أي مسحة كرامة، بعد تدميره بلداً عمره آلاف السنين ليبقى في الحكم، في حين أطلق عليه الشعب السوري اسم «خطاب الاستهبال والاستعباط»، وصرح الكثير من الرؤساء والديبلوماسيين بعد الخطاب بأن بشاراً بدا كأنه مفصول عن الواقع نهائياً. إذا استعرضنا بعض الجمل التي وردت في خطابه نلاحظ كأنها صدرت عن إنسان لديه خليط من مرضي التوحد وانفصام الشخصية، فعلى سبيل المثال جاء فيه قوله: «من يقول: إن سورية اختارت الحل الأمني فهو مخطئ»، أي أن كل ذاك الدمار الناجم عن دك المدن بالمدفعية، والصواريخ، والدبابات، والطائرات لا يعدّ حلاً أمنياً، ثم أردف في محاولة استعباط واضحة: «وإذا كنا اخترنا الحل السياسي فهذا يعني أننا بحاجة لشريك للسير في عملية سياسية، وإذا كنا لم نرَ شريكاً، فهذا لا يعني أننا لسنا راغبين في الحل السياسي، لكننا لم نجد الشريك». وهذه حقيقة واقعة؛ لأن الشريك الذي يبحث عنه إما شهيد أو معتقل أو فر بجلده إلى الخارج. سأل: «مع من نتحاور؟ مع أصحاب فكر متطرف لا يؤمنون إلا بلغة الدم والقتل والإرهاب؟ أم نحاور دمى رسمها الغرب وصنعها؟»، هنا بدورنا نحن نسأل أيضاً: مع من نتحاور؟ مع صاحب فكر سادي، وجزار أطفال، ومصاص دماء؟ أم مع دمية لروسيا وإيران؟... وأضاف: «من الأولى أن نحاور الأصيل وليس البديل، نحاور السيد لا العبد»، أي أنه يعتبر نفسه هو الأصيل، على رغم أن من المشهور أن آل الأسد مجهولو المنشأ، وكل ما هو معروف للناس اسم جدّه فقط، وعدّ كل من لا يحاوره عبداً، في حين غفل عن أن كل الحضور في القاعة ليسوا إلا عبيداً. في منتصف الخطاب بدأ الاستهبال يتضح أكثر فأكثر حين قال: «ما تسمعونه أو سمعتمونه في الماضي من أفكار وآراء وتصريحات عبر الإعلام ومن مسؤولين، لا تهمنا إذا كانت آراءً ذات منشأ ربيعي، فالربيع العربي ليس إلا فقاعات صابون ستختفي»، أي أن تغيير أربعة أنظمة عربية ليس إلا فقاعات صابون، بل وستختفي، ولا أدري كيف سيختفي الربيع العربي بمفهومه؟ فليس لذلك تفسير سوى أن الرؤساء الذين قتلوا، وفروا، وسجنوا، وخُلِعوا سيعودون لتسلم مناصبهم كرة ثانية. ثم أخذ يسرح ويمرح في فلسفته السفسطائية الممجوجة المعتادة، إذ قال: «يسمونها ثورة وهي لا علاقة لها بالثورات لا من قريب ولا من بعيد، الثورة بحاجة لمفكرين، فأين المفكر؟»، أي أن الرجل لا يزعجه إلا عجزه في العثور على مفكر في الثورة؛ في حين يرى نفسه أنه المفكر الوحيد في العالم، وهذا إن دلّ على شيء إنما يدل على أن الأسد لا يختلف أبداً عن القذافي في قضية مرض جنون العظمة. تناول قضية الإصلاح قائلاً: «إن الإصلاح من دون أمان كالأمان من دون إصلاح»، والاستهبال هنا يكمن أنه عاد إلى إسطوانته القديمة «حزمة الإصلاحات» بعد تدمير البشر والحجر، ولتأكيد استهباله أردف: «سنحاور كل من خالفنا بالسياسة، وكل من ناقضنا بالمواقف»، ويفضح استهباله هذا أن سورية في مقدمة دول العالم في كبر عدد معتقلي الرأي منذ ربع قرن؛ بل إنه اعتقل أخيراً أعضاءً من هيئة التنسيق بسبب خروجهم عن النص، وأكد على هذا حين قال: «بالنسبة لمكافحة الإرهاب لن نتوقف طالما يوجد إرهابي واحد في سورية»، ومن المعروف أنه يعتبر كل من يعترض على سلطته إرهابياً. ولكي تكتمل صورة الاستعباط في خطابه تطرق الأسد إلى إعلان جنيف قائلاً: «عندما نتحدث عن مرحلة انتقالية فأول شيء نسأله: انتقال من أين إلى أين؟ أن ننتقل من بلد فيه دولة إلى بلد ليس فيه دولة وحال فوضى مطلقة؟ إن أي تفسيرات لأي موضوع يخرج عن السيادة السورية بالنسبة لنا هو عبارة عن أضغاث أحلام»، ويتضح الاستعباط في كلامه أنه يجهل من أين سينتقل الشعب السوري؟ وإلى أين؟ بل ويعتبر أن العصابة البربرية التي يقودها الآن اسمها دولة، وأن كل سوري يحلم بالحرية، فحلمه هذا إنما هو أضغاث أحلام. ثم أنهى استهباله باقتراح بنود وأفكار لما سمّاه «حل سياسي للأزمة»، ولنركز هنا على مصطلح أزمة، أي أنه بعد مضي 22 شهراً على الثورة، وثلاثة أرباع سكان سورية بين شهيد أو مفقود أو معتقل أو لاجئ، لا يزال يُطلق على ما حدث صفة أزمة، ثم عاد إلى مربع الصفر حين قال: «إن أي مبادرة تُطرح من أي جهة يجب أن تستند إلى الرؤية السورية». والرؤية السورية، دائماً، من وجهة نظره هو بقاؤه في السلطة، واشترط في رؤيته للحل أولاً إلقاء الثوار أسلحتهم، وتسليم أنفسهم، ثم بعدها سيدعو مؤيديه وشبيحته، كالعادة، إلى عقد مؤتمر حوار وطني. * باحث في الشؤون الإسلامية.