كان لافتاً أن تسمح ظروف العراق المضطربة ببقاء ثلاث قاعات للفنون التشكيلية فيه «على قيد الحياة»، خصوصاً أن فنانيه يعودون إلى إنتاج الفن بين حرب وحرب، مقدمين أعمالاً زاخرة بالألوان والأفكار. قاعات العاصمة كانت مثل محال مهجورة، بينما الحرب الأهلية (2006 - 2007) تجوب الشوارع برصاص وفرز طائفي. ولما خَفُتَ نارها، واجه رواد الفن التشكيلي، إهمال المؤسسة الرسمية والوعود بتأمين مشاغل لهم، فيما النخبة السياسية تثقف جمهورها بحماسة كبيرة على ازدراء الفن. ثمة شعور عام لدى الرسامين والنحاتين في بغداد بأن لا أمل وجدوى من أثرهم ولونهم. بعضهم ترك البلاد، وراح يفتش عن فرص أخرى تجعله منسجماً أكثر مع فنه وما يريد، فيما بعضهم انخرط في أعمال بعيدة عن عالمه. ومن اختار البقاء انعزل خلف زجاج المعارض المعتمة. لكنهم، وعلى رغم ذلك، يحاولون بعث اللون مجدداً. نظم الفنان باقر الشيخ العام الماضي معرض «ذاكرة الجسد» في مشغله «قاعة دريم» في حي الكرادة المعروف بقاعاته الفنية، وكان محبطاً للغاية: «عن أي متلقٍ عراقيِّ تتحدث ... الوعي الاجتماعي يمر بأخطر لحظاته، هناك استلاب متعمد للقيمة الجمالية». ولدى جولة في الحي الشهر الماضي، وجدنا معرضه مغلقاً، فيما البناية تحولت إلى «مول» للملابس الرجالية. والحال أن رواد الفن التشكيلي في العراق هم أبناء الطبقة الوسطى، ولا مجال للشك في أنها لم تعد تقف على قدمين راسختين، لذا فإن لوحةً معلقة على جدار غاليري في بغداد ستبقى كذلك فترةً طويلة. يقول رسام عراقي، مشغله ومسكنه في المكان ذاته وسط بغداد، إن «فرصة بيع لوحة ما ستكون، هذه الأيام، متاحة فقط، لمسؤول يريد أن ترسم له عن قبيلته أو رموز طائفته الدينية (...)، لم أعد أرى من كان يتردد لاقتناء لوحات بسبب عشقه للألوان والأفكار البهية». ولأن الفن لا يستمر إلا بالنضال والاستمرارية، كسر فنانون عراقيون رتابة شارع رئيس وسط بغداد، وهو المشغول بمحال لبيع الأثاث ومقار وزارات، بقاعة صغيرة للفنون التشكيلية، واختاروا «أبيض وأسود» اسماً لها، على رصيف شارع «النضال». وسيجمع فنانون من بعضهم بعضاً تبرعات كمصدر لتمويل القاعة التي بُنيت من مواد رخيصة. فيما على زائرها التوقف عند لافتةٍ عند البوابة كتب عليها عبارة لفينست فان غوغ :» الأسود والأبيض يلونان الحياة بالرمادي، التبغ يحترق والحياة تتسرب، للرماد طعم مر، بالعادة نألفه، ثم ندمنه، كالحياة تماماً... كلما تقدم العمر بنا غدونا أكثر تعلقاً بها». ويحرص أصحاب القاعة، وجلهم من الفنانين الشباب على إخبار الزائر أن مكانهم الملون «جهد شخصي»، وتكاد هذه الجملة تتكرر على لسان الجميع، ربما هو نقم على حال سياسي واجتماعي يدفعهم إلى دثر ما يحبون ويرسمون. وترى هذه المجموعة الشابة أن كل فعل ثقافي في العراق بعيداً من دعم الدولة، هو تحد للواقع المرير، ومحاولة للاستمرار في عالم الفن على رغم المصاعب. ولكن هذه الحركة الفنية غير قادرة على الاستمرار من دون احتضان أو دعم بسيط، أقله من قبل الصحافة القادرة على نشر الفكرة. ففي يوم الافتتاح بدا الفنان هادي ماهود وهو أحد مؤسسي القاعة محبطاً من عدم اهتمام أهل الصحافة بما فعله مع زملائه، وعدم مساندة بعض الفنانين العراقيين للفكرة أو تشجيعها. وكانت توقعات ماهود أكبر، خصوصاً أن المكان الذي اختاروه للقاعة يقع في شارع مهم في بغداد، خصوصاً بعدما أقفلت غالبية الغاليراهات بعد عام 2003، ولم يبق منها سوى قاعة «أكد» في شارع أبي نواس، و»حوار» ومدارات» قرب أكاديمية الفنون الجميلة. «أبيض وأسود» تحولت اليوم، على رغم ضعف الإمكانات مساحة للقاء الفنانين، ومكاناً مناسباً لتنفيذ مشروعاتهم الفنية الصغيرة، وإقامة معارض شخصية. لكنها، وكما يبدو، رسالة احتجاج على مدينة اختفت منها أكثر من 30 قاعة ومعرض فني.