الوعي بالموت هو حافز الوعي بالحياة، كل حركات الناس ذهابهم وخروجهم، صراخهم الطويل، قهقهاتهم في الأسواق، كلها ليست سوى ممارسة فرار من «ذاكرة الموت». كتب جاك دريدا: «الموت أعيشه بكتاباتي، تعلم فنّ العيش يفترض ضمنياً تعلّم الموت، حقيقة التفلسف أن نتعلم كيف نموت». هيدغر رأى أن كارثة «نسيان الوجود» هي التي صنعت أشياء الحياة. ليس البشر وحدهم من لديهم ذلك السلوك بل حتى الحشرات. كتب سيوران: «الحياة سلوك حشرات». النزاع هو تشبث بالحياة. كل سلطة هي رغبة بالخلود، كل كتابة هي حفر في جبين الحياة. الحياة جدار، والإنسان يكتب - كما يفعل المراهق- ليضع ذكرياته على جدارها راغباً بالخلود. حب الترفيه هو كراهية لاستذكار الموت. ذاكرة الموت تحرك كل الجموع. الوحدة استحضار اختياري للحظات الموت. الغرق بالجموع خوف وجبن وخور. تقترب لحظات الطمأنينة حينما نحافظ على مستوى الحزن. الحزن لحظة طمأنينة غامضة. في الحزن رثاء باكر لموت ذواتنا. في لحظات الحزن ندرك صفاء نقاوة الشعور. كتب سيوران: «أحياناً عندما نختار نوعاً من النقاوة، كل شيء يبدو لنا ذا أهمية». إنها «الغربة الميتافيزيقية». غربة الذات عن الذات، غربة كل دقيقة عن أختها. صناعة العمل بدأت لمقاومة الموت من الجوع. وكل إنسان هو صاحب تاريخ بطالة. البحث عن السعادة هو بحث عن مبرر لنسيان الوجود. كتب جاك دريدا: «لا أكون مسكوناً بضرورة الموت إلا في لحظات السعادة والاستمتاع، إن الاستمتاع وبكاء الموت الذي يترصدنا أمر واحد. وعندما أتذكر حياتي أميل إلى الاعتقاد بأنني حظيت بحب اللحظات الشقية، عندما أتذكر اللحظات السعيدة أباركها، وهي تدفع بي إلى التفكير بالموت وإلى الموت، لأن الأمر قد انقضى وانتهى». في الحزن استحضار لطبيعة الحياة التي هي نتاج الوعي بالموت. نسي الإنسان وجوده منذ أن ظنّ أنه سيد الكون، تبين أن الجينوم هو سيده، وأن جينوماً في ظهره لو نشط واستيقظ لاشترك الإنسان مع الفأر بذيل متطابق، إنه مجرد رقم ضمن فصيلة جينومية عادية، مثل الفئران والجرذان، وتربطه بالقردة صفات كثيرة. إنهم يحاولون مقاومة حالات الفراغ الوجودي الذي لا يحسون به، بسبب الأمية التي يعانون منها. وبسبب الرخص الوقتي الذي يقايضون به. كتب نيتشه: «إن من يجاور هؤلاء الناس فكأنما هو ساكن على ضفة الأنهار السوداء، إذ لا يسمع إلا نقيق الضفادع الحزينة». إنه نقيق اعتباطي، مثير للإزعاج والصداع. وأيّ صداع!. وهم في حال «هروب من المشاعر»، مع سرعة إيقاع الحياة، عجزت الذات أن تنصت للذات. أصبحوا في حال «تشييء» استهلاكي بحت. أصوات وزعق وإدمان للقفز والسرعة والجري والهياج والادعاء، كلها أسلحة «لا واعية» مقاومة لذكرى الموت، ولنسيان الوجود. الحزن مستوى من الحياة الأبدية، منذ أن وضع أول إنسان كفه على خده. نيتشه كتب: «إن صوت المتشائمين بالموت يدوّي في كل مكان»، «إنهم لا يكادون يولدون للحياة حتى يبدأ موتهم، وشاقتهم مبادئ الزهد و الملال». يصارع الناس بكل حمولتهم الزمنية، وبكل قوى الوقت ذكريات الموت. إنه جبن بشري متوارث، أن ننسى لحظات الإنصات للوجود. الحزن حوار مع الموت، حوار الذات مع الزمن. الحزن ثقب قدسي بين الذات والوجود: كتب الشاعر الإيطالي تشيزاري بافيزي: «يرتدي الموت نظرةً لكل منا: سيجيء الموت وستكون له... عيناك سيكون له طعم التخلي عن رذيلة، سوف يشبه رؤية وجه مضيء ينبثق من المرآة، كما الإنصات إلى شفةٍ مضمومة سيكون آنذاك ... سوف تنزل إلى الهاوية بسكون. [email protected] @shoqiran