عرفت حياة الكاتب الإيطالي تشيزار بافيزي في العام 1950، ثلاثة أحداث مهمة، هي، أولاً صدور واحدة من أهم رواياته «القمر والنيران»، ثم، ثانياً، نيله جائزة «ستريغا» الأدبية الرفيعة عن هذه الرواية، ثم ثالثاً وأخيراً، صدور ما كان أنجزه من كتاب مذكراته بعنوان «مهنة العيش»... فلماذا تراه انتحر في ذلك العام بالذات؟ كيف تراه وضع حداً لحياة كانت قد وصلت الى ذروة نجاحها؟ من الصعب الإجابة عن مثل هذا السؤال، وكذلك من العبث استنتاج أي معنى من كون أحداث حياة بافيزي الثلاثة الكبرى وحدث موته (الإرادي) جرت في العام نفسه. ومع هذا ثمة من المؤرخين من يقول انه ربما تكون للأمر علاقة ما، بكتاب «يوميات كافكا» الذي كان في تلك الآونة قد صار متداولاً، حاملاً الى قرائه الأكثر حساسية برودة اليأس وإحساساً بالتمزق واللاجدوى، واحتمالات تمزق الأنا على أبواب العصور المقبلة. طبعاً لا يمكننا أن نزعم هنا أن هذا الاحتمال ممكن. إذ، حول هذا الموضوع، لا يمكننا في الحقيقة إلا أن نتحرى، من ناحية مجريات حياة الكاتب، ومن ناحية ثانية، ثنايا كتاباته الأخيرة. ومع هذا لعل في امكاننا، كي لا نغرق هنا في هذه العجالة، في تحليل هذا كله، أن نلجأ الى ما قاله الاختصاصي الفرنسي في أدب بافيزي مارتن رويف، من أن انتحار بافيزي، قد أحرق الدروب التي كانت ستؤدي الى تحليل أدبه، تماماً كما أن اغتيال بيار باولو بازوليني أحرق الدروب المؤدية الى تحليل ابداعه هو الآخر... حتى وان كنا نعرف أن الموت كان دائم الحضور في أدب بافيزي، الى درجة أنه كتب في «حوارات مع لوقا» أن «لا أحد في هذا العالم ينتحر، الموت هو قدر لا أكثر». لقد كانت رواية «القمر والنيران»، آخر رواية كتبها بافيزي. وهي تعتبر من قبل كثر من النقاد والمخرجين، أهم رواياته، بل لعلها - باختصار - جامعة تلك الروايات، إذ فيها يمكننا أن نرصد كل المواضيع التي كثيراً ما ملأت روايات بافيزي وقصصه. ناهيك بأن «القمر والنيران» يمكن أن تعتبر، أيضاً، نوعاً من السيرة الذاتية المواربة لهذا الكاتب ولكن، هل ثمة حقاً من بين كتابات بافيزي، نص لا ينتمي - في شكل أو في آخر - الى سيرته الذاتية؟ مهما يكن، في وسعنا، حتى من الناحية الحديثة، ان نرصد الكثير من التقابلات بين أحداث حياة بطل الرواية، وهو لا اسم له، لأنه البطل والراوي في الوقت نفسه، وأحداث في حياة بافيزي، حتى وان كان البطل - الراوي، يبدو في التفاصيل شيئاً آخر. فهو، في الرواية، يعود من كاليفورنيا في الولاياتالمتحدة، بعد أن يكون قد أمضى سنوات عدة فيها، لا سيما سنوات الحرب العالمية الثانية، حيث حقق ثراء ونجاحاً مكّناه من أن يعود الى موطنه الاصلي، فالنجاح لم يتمكن أبداً من دفعه الى نسيان ملاعب طفولته وان له في تلك الملاعب ذكريات حميمة. صحيح أنها كانت ذكريات بائسة، غير أنه لا يريد أن ينساها. ولا يريد أبداً أن ينسى أنه حين كان طفلاً، كان يتيماً يعيش تحت رحمة مزارع شديد القسوة، بدا دائماً وكأنه مرغم على تربيته وايوائه وإطعامه. وإضافة الى هذا من الواضح أن صاحبنا العائد، هذا، انما رغب في العودة، كذلك كي يعرف ما الذي حدث من متغيرات وكيف أثرت الفاشية على حياة الناس وسلوكهم... بل ربما تكون عودته، كذلك، الرغبة منه في عيش بقية حياته في ذلك الركن من الخريطة الإيطالية. ونحن القراء، لن نعرف أبداً، ما الذي كان عليه قرار الرجل منذ البداية، حتى وان كان هو يتوجه الينا بحديثه طوال الوقت. هذا الركن من ايطاليا، الذي يعود اليه الغائب هو بلدة صغيرة اسمها سانتو ستيفانو بلبو، تقع في منطقة بياد مونتي في الشمال الغربي لإيطاليا، وسط مناطق جبلية وعرة. أما الراوي، الذي لن يصرح لنا عن اسمه فإنه سيعرف طوال صفحات الرواية بلقب أطلق عليه هو «انغويلا». أما عودته فإنها مباشرة خلال السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية. وهو كان قد غادر، كما سنعرف خلال الرواية، قبيل اندلاع الحرب نافياً نفسه بعيداً من وطنه لأسباب سياسية. في البداية، يتمتع صاحبنا بعودته، إذ ها هو يستعيد الروائح والوجوه والمشاهد التي طبعت طفولته وصباه، وحلم بها كثيراً وهو في الغربة، لكنه بالتدريج يبدأ باكتشاف أن ثمة أموراً كثيرة قد تغيرت، وفي العمق أيضاً حتى من دون أن تكون واضحة لدى النظرة الأولى: ان الحرب ومرور الزمن قد بدلا جذرياً حياة أناس كانوا قد بقوا على ما هم عليه طوال قرون من السنين: خلال سنوات تبدل كل شيء بشكل جذري. فهل كان تبدلاً حقيقياً، أم أن «انغويلا» قد شعر به لأنه، هو، كان غائباً؟ لن نعرف أبداً... لكننا سنعرف أن الراوي تمكن، وبالتدريج من أن يجد نفسه أمام سر كبير وجريمة أكبر، طبعاً البلدة الصغيرة خلال سنوات الحرب. والحقيقة ان الراوي كان يمكنه ألا يهتم كثيراً بهذا الحدث، الذي يراه الآن استثنائياً، في حياة البلدة، لولا أن الجريمة والسر يتعلقان مباشرة بالمكان الذي ترعرعت طفولته فيه، وبالناس الذين حضنوه... خصوصاً أن هذا الواقع أدى الى أن تستفيق في ذاكرة الراوي أحداث من طفولته أكثر خطورة وعمقاً من تلك التي كان قد «سمح» لنفسه بتذكرها. ومن هنا تبدأ، في ذاكرة الراوي وعلى صفحات الرواية ذكريات جديدة وأحداث أخرى، ربما تفسر، هذه المرة سر اللقب الذي يحمله الراوي ولا يعرف إلا به «الانكليس» (نوع من ثعبان البحر)... وهو يرمز، كما يمكننا أن نفهم من عمل أدبي آخر، كتبه أوجينيو مونتالي (الشاعر الإيطالي الحائز لاحقاً جائزة نوبل للآداب) في الوقت نفسه الذي كان بافيزي يكتب روايته هذه، الى «روح خضراء هائمة تبحث عن الحياة، هناك حيث لا يوجد سوى جفاف وخواء...». لن نتوقف طويلاً عند رواية أحداث هذه الرواية هنا، ولن نمعن في تفسير هذه الأحداث، فقط نجد أن من المجدي القول، ان هذا الإطار، يكاد يجمع بين شخصية الراوي، وشخصية بافيزي، ما يفسر ما قلناه في سطور سابقة، من أن هذه الرواية تكاد تكون سيرة ذاتية ما، للكاتب نفسه. حتى وإن كنا نعرف أن بافيزي لم ينف نفسه الى الولاياتالمتحدة ولم يحقق نجاحاً من الأعمال - على الطريقة الأميركية - خلال سنوات الحرب. ومع هذا لا ننسين أن بافيزي عرف بدوره منفى طوعياً، هو الذي عاش حقبة أخيرة من حياته في كاليبريا، بعيداً من مسقط رأسه. وهي بالتحديد بلدة سانتو ستيفانو بلبو، البلدة التي يعود اليها راوي «القمر والنيران»! فهل يمكننا هنا أن نواصل لنقول، إن ثمة في هذا التقابل ما يوحي بأن أميركية الراوي، تكاد تتوازى، مع أميركية اهتمامات تشيزار بافيزي الأدبية خلال تلك السنوات بالذات وقبلها، إذ من المعروف أن بافيزي، انصرف خلال تلك الحقبة من حياته الى التركيز على قراءة الأدب الأميركي وترجمته - من أعمال والت ويتمان الى أعمال شيرود اندرسون -؟ ممكن لهواة هذا النوع من الرصد. أما نحن هنا فيهمنا بالأحرى أن نشير الى أن ما يجمع بين الراوي وبافيزي، أكثر من الأمور الخارجية، انما كان النفي الداخلي... الاستبعاد... الإحساس بأن ثمة في نهاية الأمر ما يدفع كلاً منهما الى التخلي عن حلم العودة الى مرتع الطفولة، دفعاً طارداً... ولعل هذا هو المعنى الأساس لهذه الرواية، كما أنه الفكرة المهيمنة بعد كل شيء على «مهنة العيش»... ومن هنا، هل يعود من حقنا أن نندهش ان تذكرنا مرة أخرى أن بافيزي لم ينتحر إلا بعد أن أنجز الكتابين؟ عاش تشيزار بافيزي بين 1908 و1950. وهو ولد في عزبة تملكها عائلته خارج مدينة تورينو. ودرس في جامعة هذه المدينة ليتخرج بأطروحة عن الشاعر الأميركي والت ويتمان، بادئاً اهتمامه المفرط بالأدب الانغلوساكسوني حيث عكف على ترجمة بعض أمهات الروايات الأميركية والانكليزية، مثل «موبي ديك» و «صورة الفنان شاباً» و «مول فلاندرز» وغيرها. في عام 1935، نفي الى كاليبريا تحت ضغط الفاشيين، ليبدأ في العام التالي بنشر كتبه المتتالية بادئاً بمجموعة شعرية هي «عمل منهك». ثم نشر عدداً من الروايات والقصص القصيرة، ومن أشهرها «الشاطئ» و «بين نساء ونساء» و «الشيطان على التلال»... اضافة الى مجموعات شعرية من أشهرها «سيأتي الموت وتكون له عيناك». [email protected]