دعتني إدارة «معرض الدوحة الدولي للكتاب» لإلقاء محاضرة في قطر عن «الإسلام السياسي والتيارات الأخرى» وذلك يوم الاثنين 17 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، وشاركني في المحاضرة الأستاذان نبيل عبدالفتاح وضياء رشوان وهما من أقدر الباحثين في مجال الحركات الإسلامية المعاصرة. وقد ظننت - كما قلت في بداية محاضرتي - أن مهمتي في الحديث عن تيار «الإسلام السياسي» سهلة وميسورة، بحكم متابعتي البحثية لنشأته وتطوره وانحساره. وقد ضمنت أبحاثي التي نشرتها منذ أواسط التسعينات في كتاب لي أصدرته عن «المكتبة الأكاديمية» في القاهرة عام 1996 كان عنوانه «الكونية والأصولية وما بعد الحداثة»، وخرج في جزءين: الأول بعنوان «نقد العقل التقليدي»، والثاني بعنوان «أزمة المشروع الإسلامي». تبينت لي صعوبة المهمة لأن الإسلام السياسي أصبح منذ ذلك الزمن ظاهرة تناقش تجلياتها في عديد من قارات العالم بما فيها القارة الأوروبية، التي تلعب فيها جماهير المسلمين المهاجرة إليها دوراً مهماً في نشر أفكار الاسلام السياسي والتحرك في مجال السلوك الفعلي تحت شعاراته. ومن ناحية أخرى لأن من مفارقات التاريخ أنني كتبت في التسعينات عن «أزمة المشروع الإسلامي المعاصر» في خضم حوار ممتد تم بيني وبين الدكتور أحمد كمال أبو المجد المفكر الإسلامي المعروف، حول بيان أصدره باسم مجموعة من المثقفين الإسلاميين عام 1992 باسم «رؤية إسلامية معاصرة»، وحوار ممتد آخر بالغ الأهمية بيني وبين الشيخ الجليل الدكتور يوسف القرضاوي عن حلم استرداد نظام الخلافة الإسلامية، وتمت هذه الحوارات على صفحات جريدة «الأهرام» ابتداء من 30 ايار (مايو) 1994. وكان نقدي الأساسي للرؤية المعاصرة المقترحة أنها لا تضيف أي جديد وأن وصفها بالإسلامية فيه تجاوز شديد، لأن مفرداتها عبارة عن ترديد وإعادة إنتاج لعدد من المسلمات الليبرالية حول محاسبة الحاكم والحكم في ظل الشورى أو الديموقراطية بالمعنى المعاصر. أما حواري مع الدكتور القرضاوي فقد دار حول حلمه باسترداد نظام الخلافة، وهو ما رأيته يجافي حقائق العالم المعاصر، وأنه حلم لا يستقيم لغموض أركان نظام الخلافة ذاته لو أريد إعادة إحيائه اليوم. وحين كتبت عام 1994 كانت الحركات الإسلامية في العالم العربي تمر بمحنة شديدة بعد أن دخلت الجماعات والأحزاب المعبرة عنها في صدام عنيف مع الأنظمة السياسية العربية في عديد من البلدان، وتحول هذا الصدام العنيف إلى صدام دموي بعد أن ظهرت حركات إسلامية إرهابية مثل حركة «الجهاد» في مصر و»الجماعة الإسلامية» التي مارست أنواعاً شتى من الإرهاب العشوائي ليس ضد السلطة فقط بل ضد المواطنين الآمنين مسلمين كانوا أو أقباطاً، وفي بعض الأحيان ضد السياح الأجانب، والتي يمثل الحادث الإرهابي في الأقصر والذي قتل فيه خمسة وأربعون سائحاً أجنبياً ذروة من ذرى العنف المسلح الذي تمسّح بالإسلام زوراً وبهتاناً. وقد نجحت الدول العربية جميعاً بعد تضحيات هائلة في قمع الإرهاب، بعد القبض على زعماء هذه الجماعات وعلى أعضائها والحكم بالسجن عليهم وإيداعهم السجون. وبعد ذلك من خلال حوار بين السلطة المصرية وبين زعماء هذه الجماعات تم الإفراج عنهم وأصدروا كتباً متعددة أطلق عليها «المراجعات»، مارسوا فيها النقد الذاتي لمنطلقاتهم الفكرية الخاطئة. وقد قمت بدراسة نقدية لحوالى عشرين كتاباً من كتب المراجعات نشرتها بعنوان «آلية القياس الخاطئ والتأويل المنحرف»، لتحديد لماذا انحرفت أفهام هؤلاء الإرهابيين في تفسير الآيات القرآنية. لقد كتبت في مقالة لي بعنوان «أزمة المشروع الإسلامي المعاصر» (العام 1994) ما يلي: «يمر المشروع الإسلامي بأزمة لا شك فيها. ونقصد بهذا المشروع الحركة الإسلامية التي ظهرت في ربوع الوطن العربي منذ أكثر من ستين عاماً. وربما كان الإخوان المسلمون - بحكم انتشارهم في عديد من البلاد العربية - هم الممثلون الرواد لهذه الحركة. والأزمة التي نتحدث عنها لا تتعلق فقط بالسلوك العملي لأنصار هذا المشروع الذي جعلهم يصطدمون بالسلطة في عديد من البلاد العربية صداماً دامياً في بعض الأحيان، بل هي في المقام الأول أزمة تتعلق بالمنطلقات النظرية لهذا المشروع، ورؤيته للعالم، وبنظرته إلى نفسه، وباتجاهه إزاء الغير». لم أكن أدري بالطبع في هذا الوقت (العام 1994) أنه بعد ثمانية عشر عاماً من هذا التاريخ وبعد ثورة 25 يناير 2011 سيخرج قادة «الإخوان المسلمين» من السجون وينطلقون – بعد أن شاركوا في الثورة - مع بقية التيارات السياسية الأخرى في مسيرة المرحلة الانتقالية من السلطوية إلى الديموقراطية، وإذا بهم ينجحون في اكتساح الانتخابات البرلمانية ويحصلون مع حزب «النور» السلفي على الأكثرية في مجلسي الشعب والشورى، ليس ذلك فقط بل ينجحون في الاحتشاد وراء الدكتور محمد مرسي رئيس حزب «الحرية والعدالة» الإخواني المرشح لرئاسة الجمهورية حتى نجح – وإن كان بصعوبة بالغة - أمام خصمه الفريق أحمد شفيق وأصبح رئيساً للجمهورية! وكان المفروض منطقياً أن تكون ازمة المشروع الإسلامي المعاصر، التي تحدثت عنها عام 1994 بعد أن نقدت منطلقاته النظرية وأهمها حلم أنصاره بإحياء نظام الخلافة، قد انتهت، بعد أن تحول زعماء «الإخوان المسلمين» الذين كانوا يقبعون معتقلين في السجون ليصبحوا هم حكّام البلد في مصر، إلا أن دهاء التاريخ أدى بهم ألا يركزوا على مشكلة وجودهم الفاعل في الساحة، ولكن إلى المخاوف الكبرى من فشلهم التاريخي في حكم مصر بحكم تجاوزاتهم الشديدة ضد دولة القانون وضد الديموقراطية، واتجاههم إلى الاستئثار والسيطرة والهيمنة المطلقة على مجمل الفضاء السياسي المصري. وليس أدل على ذلك من اصطدامهم الأحمق بمؤسسة القضاء واتجاههم لتقويض سلطة القضاة، وإسراعهم في صوغ مشروع معيب للدستور يجري حوله استفتاء مضاد للقواعد الدستورية وترفضه كل القوى السياسية. وهذا الفشل التاريخي المحتمل يرد – في أحد أسبابه - إلى حلم قديم للشيخ حسن البنا مؤسس جماعة «الإخوان» يتمثل في إحياء نظام الخلافة الإسلامية. وعبّر عن الإيمان المطلق باسترداد هذا «الفردوس المفقود» الشيخ القرضاوي في الحوار الذي دار بيننا العام 1994 بعد أن كان نشر مقالاً عبّر فيه عن حلمه. وطرحت عليه في الحوار أسئلة عدة لكي يجيب عنها وهي كما يلي: هل سيتولى الخليفة منصبه بالتعيين أم بالانتخاب؟ ولو كان بالتعيين من الذي سيعينه؟ هل هو «مجلس المجتهدين» الذي اقترحه؟ أم أنه إيماناً بقواعد الديموقراطية سيتم انتخاب الخليفة ديموقراطياً؟ وتظل هناك أسئلة أخرى. إذا كان سيتم انتخاب الخليفة ديموقراطياً من له حق الترشيح؟ وهل لا بد أن يكون من رجال الدين مع أنه لا كهانة في الإسلام ولا احتكار في معرفة الشريعة، أم أن أي مواطن عادي يمكنه الترشيح؟ وهل سيتم تداول السلطة، بمعنى أنه سيتغير الخليفة كل فترة زمنية أم أنه ما دام قد جلس على كرسي الخلافة فلن ينزل عنه أبداً؟ وسؤال أخير خطر لي: ماذا سيفعل الشيخ القرضاوي مع الملوك والرؤساء الذين يحكمون اليوم، هل سيفصلهم من وظائفهم حتى تخلو الساحة للخليفة المنتظر؟ وقد تفضل الشيخ القرضاوي ورد على تساؤلاتي في مقال كتبه ونشره في جريدة «الأهرام» بتاريخ 2 آب (أغسطس) 1994 بعنوان « تعقيب حول مقال الإمبراطورية والخليفة» وقال رداً على تساؤلي عن كيفية إحياء نظام الخليفة أنه لم يفصل في الحديث لسببين - وأنا أقتبس من كلامه «الأول أنني لم أكتب بحثاً عن نظام الخلافة، والنظام السياسي في الإسلام، وإنما كتبت مقدمة عن الأمة المسلمة باعتبارها حقيقة لا وهما، والثاني أن ليس من حقي أن أحتكر هذا التفصيل لنفسي إنما هو حق الأمة ممثلين في أهل الحل والعقد فيها تختار ما تراه أنسب لظروفها ومرحلة تطورها». هكذا تكلم الشيخ القرضاوي عن الهوية المتخيلة لأنصار الإسلام الإسلامي، ومن الواضح أنها مشروع مثالي يتجاهل واقع النظام الدولي، ويستهين بالمزاج العالمي السائد الذي لا يقبل بسهولة تأسيس دولة دينية منغلقة في عصر انفتاح العولمة! * كاتب مصري