بانهيار الاتحاد السوفياتي سقطت الأممية الشيوعية التي قادها وأدارها الزعماء السوفيات منذ أن تولى لينين رئاسة الدولة البلشفية حتى حدث الانهيار العظيم. وهذه الأممية الشيوعية كان الهدف منها خلق مجال سياسي عابر للدول، تقوم فيه نظم شيوعية تأتمر بتوجهات القادة السوفيات. وربما كانت دول أوروبا الشرقية التي سيطر عليها الاتحاد السوفياتي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة هتلر وسقوط النظام النازي، تمثل نموذجاً لممارسات هذه الأممية الشيوعية لأن هذه الدول كانت تأتمر بأوامر «الكومنترن» الذي كان يعد القيادة الإيديولوجية للبلاد التي خضعت للاتحاد السوفياتي. وقد أدى سقوط الاتحاد السوفياتي إلى انهيار النظام الدولي الثنائي القطبية الذي كان يتصارع فيه أيديولوجياً وسياسياً الاتحاد السوفياتي باعتباره الزعيم الأوحد للعالم الشيوعي، مع الولاياتالمتحدة الأميركية التي كانت تعد زعيمة العالم الحر. وتحول النظام ليصبح أحادي القطبية تهيمن عليه الولاياتالمتحدة بالكامل. في ظل هذا النظام المهيمن لم يكن من السهل أن تبرز أممية جديدة وخصوصاً أنه في ظل النظام الثنائي القطبية حاول الزعيم الإسلامي السوداني حسن الترابي حين كان مهيمناً على النظام السياسي في بلده أن يؤسس لأممية إسلامية يكون مركزها الخرطوم. وبذل في سبيل تحقيق هذا الهدف جهوداً شتى أبرزها دعوة الزعماء المسلمين من بلاد شتى إلى الخرطوم ليشكل أشبه ما يكون بمجلس إدارة لهذه الأممية الإسلامية البازغة. غير أن مشروع الترابي فشل فشلاً ذريعاً لأنه لم يحسن قراءة تغيرات النظام الدولي الجديد، والذي لا يقبل على الإطلاق تأسيس دول دينية تحكمها بالضرورة اتجاهات سياسية متطرفة إزاء الآخر، أو إنشاء أممية إسلامية تحلم بتوحيد البلاد الإسلامية تحت قيادة واحدة. وعلى رغم أن النظام الأحادي القطبية الذي تهيمن عليه الولاياتالمتحدة ما زال باقياً، إلا أن أهم تغير حدث هو الضعف التدريجي الذي أصاب القوة الأميركية بحكم فشلها بل وهزيمتها الفعلية في كل من العراق وأفغانستان. هذا على مستوى النظام العالمي، أما على مستوى النظام الإقليمي العربي فإن أخطر التحولات التي حدثت في مجاله هو اندلاع ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية. وهذه الثورات – فيما يرى عديد من المراقبين - فاجأت الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي. غير أن المفاجأة الأكثر وقعاً كانت صعود التيارات الإسلامية إلى سدة الحكم. ففي تونس حصل حزب «النهضة» الإسلامي بقيادة راشد الغنوشي على الغالبية في الانتخابات، وكذلك نجحت جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر متحالفة مع حزب «النور» السلفي في الحصول على الأكثرية في مجلسي الشعب والشورى. وفوجئت الجماعة بانتصارها الكاسح على القوى الليبرالية واليسارية ونجاح مرشحها رئيس حزب الحرية والعدالة الإخواني الدكتور محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية ليصبح رئيساً لجمهورية مصر العربية. ويمكن القول - بناء على دراسات متعمقة قمت بها - إن الولاياتالمتحدة الأميركية اتخذت منذ أكثر من عشر سنوات قراراً استراتيجياً مؤداه أنه يمكن لها أن تتعامل مع التيارات الإسلامية عموماً، ومع جماعة «الإخوان المسلمين» خصوصاً حتى لو وصلت إلى الحكم. والدليل على ذلك أن مؤسسة «راند» الأميركية والتي تعد العقل الاستراتيجي الأميركي الرئيسي نشرت بحوثاً بالغة الأهمية قامت بها الباحثة تشيرلي بينار، وأبرزها تقرير نشر عام 2003 عنوانه «الإسلام المدني الديموقراطي: الشركاء والموارد والاستراتيجيات» قامت فيه برسم خريطة دقيقة للتيارات الإسلامية، ودعت فيه إلى دعم مجموعات من الإسلاميين المعتدلين في العالم العربي. وهكذا يمكن القول إن صانع القرار الأميركي كان – قبل اندلاع ثورات الربيع العربي- مزوداً بخريطة معرفية كاملة للتيارات الإسلامية، سمحت له بتمويل جماعات شبابية عدة في العالم العربي لتكون دعامة له في خلخلة النظم الاستبدادية العربية إذا دعت الظروف لذلك، ومن بينها على سبيل القطع شباب ينتمون إلى جماعة «الإخوان المسلمين» وغيرها من الجماعات الإسلامية. ولم تكتف تشيرلي بينار برسم خريطة التيارات الإسلامية وإنما – في التقرير المشار إليه نفسه - اقترحت استراتيجية متكاملة لإعداد المجتمع العربي لصعود الإسلاميين، والتمهيد السياسي لتعامل صانع القرار الأميركي معهم إذا وصلوا إلى الحكم عن طريق الانقلاب أو من خلال الانتخابات النيابية. ويبقى السؤال: ما الذي حدث بعد أن صعدت جماعة «الإخوان» إلى ذروة السلطة السياسية في مصر، خصوصاً بعد أن تولى القطب الإخواني الدكتور محمد مرسي رئاسة الجمهورية؟ الذي حدث هو أن قيادات «الإخوان المسلمين» وعلى رأسهم المرشد العام للجماعة الدكتور محمد بديع أدلى بتصريح «تاريخي» حين قال – بعد أن حصل حزب الحرية والعدالة على الأكثرية في مجلس الشعب والشورى - «يبدو أن حلم الشيخ حسن البنا مؤسس الجماعة في إحياء الخلافة الإسلامية قد اقترب». تلت هذا التصريح تصريحات أخرى أكثر وضوحاً أبرزها تصريح القطب الإخواني الداعية الديني المعروف صفوت حجازي بأنه سيتم إحياء الخلافة الإسلامية وستكون عاصمتها القدس، وستصبح مصر مجرد ولاية إسلامية من بين الولايات التي تضمها الخلافة. وهذه التصريحات لم تكن مفاجئة لي بالذات، لأنه سبق أن دخلت عام 1994 في حوار طويل مع الشيخ الجليل يوسف القرضاوي بصدد دراسة نشرها في التقرير الإسلامي السنوي ووضع لها عنوان «تقرير الأمة في عام» تحدث فيها عن حلمه بعودة نظام الخلافة من جديد. وطرحت على الشيخ القرضاوي أسئلة حاسمة عدة في ما يتعلق بإحياء نظام الخلافة بيانها كما يلي: هل سيتولى الخليفة منصبه بالتعيين أم بالانتخاب؟ ولو كان بالتعيين من الذي سيعينه، هل «مجلس المجتهدين» الذي اقترحه ولم يبين كيف يمكن اختيار أعضائه؟ واستطردت في أسئلتي قائلاً: «إيماناً بقواعد الديموقراطية هل سيتم انتخاب الخليفة ديموقراطياً، ومن له حق الترشح؟ وهو لا بد أن يكون من رجال الدين مع أنه لا كهانة في الإسلام ولا احتكار في معرفة الشريعة، أم أن أي مواطن عادي يمكن له الترشح»؟ «وهل سيتم تداول السلطة، بمعنى أنه سيتغير الخليفة كل فترة زمنية، أم أنه ما دام قد جلس على كرسي الخلافة فلن ينزل منه أبداً»؟ ورد الشيخ القرضاوي على تساؤلاتي في مقال له نشره في جريدة «الأهرام» في 2/8/1994 بعنوان «تعقيب على مقال الإمبراطورية والخليفة» وهو يقصد مقالي الذي نشرته قبل ذلك بأسبوع وطرحت فيه الأسئلة التي سبقت الإشارة إليها. قال القرضاوي رداً على تساؤلاتي: «إني لم أفعل ذلك لسببين الأول أني لم أكتب بحثاً عن نظام الخلافة أو النظام السياسي في الإسلام، وإنما كتبت مقدمة عن الأمة المسلمة باعتبارها حقيقة لا وهماً، والثاني أنه ليس من حقي أن احتكر هذا التفصيل لنفسي إنما هو حق الأمة متمثلة في أهل الحل والعقد فيها تختار ما تراه أنسب لظروفها ومرحلة تطورها (انظر تفاصيل الحوار في كتابي «الكونية والأصولية وما بعد الحداثة، الجزء الثاني: أزمة المشروع الإسلامي المعاصر - القاهرة: المكتبة الأكاديمية 1996). لم يكن الجدل الذي دار بيني وبين الشيخ القرضاوي في عام 1994 سوى مقدمة لمحاولة «الإخوان المسلمين» إحياء نظام الخلافة من جديد على المستوى النظري. أما وقد هيمنوا على الحكم في مصر فقد بدأوا في تنفيذ المخطط من خلال التحالف مع جماعة «حماس» في غزة تمهيداً لاعتبارها إمارة إسلامية ستدخل وفق شروط سياسية متفق عليها مع قيادة جماعة «الإخوان» في مصر في إطار منظومة الخلافة الإسلامية التي يحلمون بإعادة إحيائها لتكون الفردوس المردود بعد أن كانت هي الفردوس المفقود! * كاتب مصري