لا يكفي التحليل الداخلي لشرح عمليات الثورة السورية اليوم. كان يحيط بكل ما هو أساسي في بداية الثورة وطوال شهور بعدها، ثم أخذت الكفاءة التفسيرية للاقتصار عليه تتراجع بفعل التحول المضطرد لسورية إلى بلد بلا داخل. لا يزال التحليل الداخلي يعطي الأساس، أساس الصراع ومحركاته الأولى ومنابع استمراريته، ولا يزال في تحديده الرئيس صراع شعب اضطُهِد طويلاً ضد نظام طغيان إجرامي. ولكن مع تقدم الصراع السوري في الزمن واشتداده، تكسرت الحدود التي كانت تعزل سورية عن محيطها والعالم من حولها وتدفقت قوى متنوعة من الداخل إلى الخارج ومن الخارج إلى الداخل، وصار لازماً أخذ هذه القوى وتفاعلاتها بالحسبان لفهم ما يجري. كانت سورية منذ وقت باكر من حكم حافظ الأسد استقرت على وضع «الدولة الخارجية»، المركّب السياسي الأمني الذي يغلق الملعب الداخلي، ويتعامل مع المحكومين بقسوة استعمارية، ومع محيطه كأوراق أو أسهم يتلاعب بها في بورصة القوى الإقليمية والدولية الكبرى، ويؤمّن بهذا الأسلوب سلطانه. حين يتراجع يضحي ببعض الأسهم، وليس بقاعدة ملكه الأساسية، وحين يكسب يستعيد بعض الأوراق، ويتطلع إلى جمع أوراق جديدة. لكن بقاءه ودوره كلاعب بين اللاعبين المهمين كانا خارج البحث، على ما أظهرت أزمة 2005. في الداخل، «الدولة الخارجية» سجن. قبل الثورة كان يتواتر فعلاً أن يصف السوريون بلدهم بأنه «سجن كبير». اليوم يبدو أن جدران السجن تتحطم، والسجناء يخرجون منه، ويختلطون على غير نظام بالعالم خارجه، وهذا يفد إليهم على غير نظام أيضاً. لم تعد ثمة حدود أو أسوار. سورية اليوم بلد بلا حدود جغرافية تقريباً، من جهة الشمال والشمال الشرقي بخاصة، فيما حدودها الجنوبية وحدودها الغربية مثقوبة. وعبر الحدود المكسرة أو المثقوبة يتحرك لاجئون وصحافيون ومقاتلون، سوريون وعرب ومسلمون، ولا ريب أمنيون أجانب. وعبرها يدخل سلاح ومال وأدوات اتصال ومعونات إغاثية (أغذية، ألبسة، وأدوية...). والقول إنه لم يعد لسورية داخل يعني أيضاً أنه لم يعد لها خارج، هناك ما يقرب حالة انصهار تنتج من زوال الحدود. هذا هو الاتجاه العام لسير الأمور، وإن لم يكن واقعاً محققاً اليوم إلا في بعض مناطق البلد، الشمالية خصوصاً. ولا يمس في حقيقة هذه التحولات البنيوية انعكاسها الأيديولوجي في أذهان بعضنا، كثورة متروكة لمصيرها اعتمدت حصراً على نفسها، في قول، وكثورة مختطفة من تركيا ودول خليجية وأميركا في قول آخر. اختلاط الداخل والخارج أمر «موضوعي»، مترتب على ديناميات الثورة ذاتها، ومحمول بخاصة على مواجهتها بالحرب من جهة النظام. يقارب الاستحالة تصور ثورة سورية عنيفة، عمرها يقارب العامين، ثم بقاء كل شيء داخل الفقاعة الإيديولوجية والسيكولوجية التي فرضها النظام الأسدي على السوريين، وحرسها بجدران الخوف وبالتخوين. كسر هذه الحدود الأيديولوجية والسيكولوجية، وانتهاك الحدود الجغرافية، هما أفعال مقاومة إلى حين سقوط النظام. بعدها يواجه السوريون مهمة إعادة بناء حياتهم السياسية والفكرية ووضع حدودهم الجديدة، في سياق جهودهم لبناء وطنية سورية جديدة. وقع ما يشبه ذلك في كل الثورات الكبرى، وربما يمثل شرط «الدولة الخارجية»، أو ببساطة الدولة السجن، إغراءً كبيراً بكسر كل حدود. لكن انهيار «الدولة الخارجية» الجاري يفتح أبوابها لكل أنواع الخوارج: القوى الإقليمية والدولية المنظمة، ولكن أيضاً تشكيلات ما دون الدولة المتنوعة، بما فيها مجموعات جهادية مما هو معلوم. معلوم أيضاً أن النظام الأسدي كان يجد نفسه في بيته في صحبة منظمات ما دون الدولة في الجوار السوري المباشر، لبنان والعراق وفلسطين وتركيا، أكثر بكثير مما في صحبة الدول ذاتها. وهذا بالتناسب مع ضعف هذه الدول. الأردن لم يسهّل هذه العملية، وتركيا جعلتها أصعب منذ عقد ونصف عقد، وأخيراً خسر النظام خدمات «حماس»، ولم يبق له فلسطينياً إلا أمثال أحمد جبريل. يبقى لبنان والعراق، لكن العلاقة بأية مجموعة في البلدين تمر اليوم عبر الرعاية الإيرانية. القصد أن تحرك مجموعات ما دون الدولة، بما فيها الجهادية، ليس بلا سوابق على الدروب المؤدية إلى دمشق والمتفرعة عنها. ولا ريب أن النظام السوري، وهو ذاته أقرب إلى منظمة ما دون دولة كما يظهر بجلاء اليوم، ساهم في انتشار هذا الضرب من الفاعلين السياسيين مشرقياً، وإن لم يكن الوحيد في ذلك. إيران قوة مهمة، بل الأهم، في هذا الشأن اليوم، والنظام السوري ذاته يكاد أن يرتد إلى وكيل في مشروعها الإقليمي. لكن الحكم الإيراني ليس منظمة ما دون دولة في إيران ذاتها. بين كل قوى «الخوارج» المتدفقين إلى سورية اليوم، يشكل بعض المجموعات الجهادية خوارج بمعنى مضاعف: تعتمد في شبكات دعمها المادي وبمقدار كبير أيضاً في مقاتليها على مصادر غير سورية، ثم لكونها تحمل مشروعاً خوارجياً بالمعنى الذي عرفه التاريخ الإسلامي الباكر، بل أشد خروجاً وخارجية منه. ويطرح هذا الوضع تحديات كبيرة للمستقبل عنوانها العام تحوُّل البلد إلى ملعب. كان ممالئو حافظ الأسد ينسبون إليه أنه حوَّل سورية من ملعب إلى لاعب. صحيح. ولكن مع جعل السوريين غرباء لا يحق لهم التدخل في الشؤون الداخلية ل «سورية الأسد» من جهة، ومع اللعب بالفلسطينيين واللبنانيين، ثم العراقيين، ودوماً بالسوريين أنفسهم، من جهة ثانية. والمسألة التي ستفرض ذاتها على السوريين في سورية ما بعد الأسدية في وقت قريب هي: كيف نطوي صفحة «الدولة الخارجية» من دون التحول إلى الدولة الملعب؟ كيف نتخلص من الدولة السجن من دون أن نتحول إلى الدولة الساحة؟ كيف يمكن ضبط الخوارج والخوارج المضاعفين، بما في ذلك تجنب أن تغدو سورية مساحة إضافية للحرب الأميركية ضد الإرهاب؟ يصعب أن نقول شيئاً مفيداً عن ذلك اليوم، ولا نعلم ماذا ستحرر الثورة من قوى وديناميات محلية وإقليمية متناقضة. ولكن، لعلنا لا نخطئ بالقول إن أمامنا عقداً أو عقداً ونصف عقد من صراعات متنوعة إلى حينٍ قد تستقر معه سورية على صورة سياسية جديدة. اليوم، لا يزال «الأمر القطعي» في سورية هو التخلص من «الدولة الخارجية».