مع اقتراب سنة 2012 من نهايتها، الموعد المفترض لسقوط أميركا في ما اصطلح على تسميته «الهاوية المالية،» وبينما الرئيس باراك أوباما وقادة حزبه الديموقراطي المهيمن على مجلس الشيوخ في الكونغرس يخوضون مع قادة الجمهوريين المسيطرين على مجلس النواب مفاوضات تنافسية شرسة، أعلنت بيوت استطلاع الرأي إن الشعب الأميركي يريد حلاً وسطاً لتفادي الكارثة الوشيكة. وعلى رغم أن وكالات استطلاع الرأي أحجمت عن الخوض في دوافع المستطلعة آراؤهم، فليس سراً أن الغالبية لم تقحم نفسها في عمل المشرعين إلا بعدما أدركت أن مفاوضات الهاوية المالية التي بدأت في الحقيقة قبل 17 شهراً تحولت إلى صراع لحماية مصالح القاعدتين الشعبيتين لقطبي الكونغرس المصمم بحيث تستحيل عليه ممارسه عمله إلا بالتوافق في حال غياب الهيمنة المطلقة على مجلسيه. لكن حتى في حال اقتنع البيت الأبيض والكونغرس بصدقية استطلاعات الرأي وعملوا برأي الغالبية فما هو الحل الوسط المنشود وما الذي يمكن أن يفعله إزاء مأزق تاريخي ما فتئ كثيرون وفي مقدمهم أعلى سلطة نقدية في البلاد وصندوق النقد الدولي يحذرون من أخطاره؟ وقبل ذلك كيف وصلت أميركا أصلاً إلى حافة الهاوية المالية؟ بادئ ذي بدء ليست «الهاوية المالية» نتاج الأزمة المالية لعام 2008، ولم تنجم وفق اعتقاد البعض عن قرار اتخذه رئيس أميركي بدافع مصلحي بل هي محصلة سلسلة من القرارات الرئاسية والأحداث العظام التي توالت بسرعة تحبس الأنفاس في العقد الأخير للقرن العشرين والأول من الحادي والعشرين. وجاءت البداية مع تسلم الرئيس السابق بيل كلينتون ولايته الأولى في 1993. ففي محاولة للسيطرة على عجز مالي ودين فيديرالي منفلتين من عقالهما ورثهما عن الرئيس جورج بوش الأب انتهز كلينتون هيمنة حزبه على الكونغرس لإطلاق توليفة تشريعية تقلص الإنفاق وتزيد الضرائب على كبار الأثرياء وتخفضها على محدودي الدخل والشركات الصغيرة. وعلى رغم كلفته السياسية الباهظة: خسارة الأغلبية التشريعية، أنجز المسعى المغامر ما يكفي من النجاح كي يصبح مثالاً يحتذى للديموقراطيين. لكن نجاح توليفة الإنفاق والضرائب تطلب توافر العديد من الأحداث المشهودة: انطلاق ثورة الإنترنت وتشكل فقاعة ال «دوت كوم» (التجارة الإلكترونية) وتدفق الاستثمارات الخارجية على أميركا على حساب النمور الآسيوية الغارقة في أزمتها النقدية وأخيراً التضخم الهائل في ثروات كبار الأثرياء الأميركيين وتعدادهم. وهكذا أضاف كلينتون لمغامراته العاطفية سلسلة من النجاحات الباهرة شملت أطول فترة متصلة من الازدهار الاقتصادي وفوائض مالية في أربع سنين متتالية، في سابقة لم تسجلها موازنة أميركا في ستة عقود، وأقل معدل نمو في الدين الفيديرالي. حساب الحقل وحساب البيدر وكمحصلة وداعية مليئة بالمعاني غادر كلينتون البيت الأبيض معلناً أن فوائض الموازنة وصندوقي الضمان الاجتماعي والصحي المتوقع أن تتحقق في العقد المقبل، ما مجموعه خمسة تريليونات دولار، ستحرر أميركا من دينها الفيديرالي. لكن حسابات الحقل لا تتطابق دوماً مع مكيال البيدر. فمن الشرق الأوسط انطلق إعصار اقتصادي لم تنفد قواه إلا بعدما دفع بأميركا كلها إلى حافة الهاوية المالية. وتمثلت شرارة الانطلاق في فشل مشروع لتوليد الكهرباء وتحلية المياه في غزة وجاءت كمقدمة لسقوط عملاق الطاقة «انرون» وتبعتها سلسلة لا تنتهي من الفضائح المالية وسبقهما انفجار فقاعة ال «دوت كوم» ثم الركود الاقتصادي وقرارات المصرف المركزي والرئيس السابق جورج بوش الابن بتصفير سعر الفائدة وخفض الضرائب وشن حرب مكلفة على العراق وخفض الضرائب ثانية ثم تشكل فقاعة الائتمان وانفجارها وسقوط الاقتصاد في «كساد عظيم». ولا يعترف الإعصار بنتائجه المدمرة إلا بصعوبة بالغة لكن بعض المقارنات قد يفي بالغرض. فمثلاً، وعلى مدى الأعوام الثمانية التي قضاها كلينتون في البيت الأبيض ارتفع الدين الفيديرالي بنسبة 3.9 في المئة سنوياً وانتهى عند مستوى 5.7 تريليون دولار. وفي الفترة الرئاسية المماثلة لبوش الابن تضاعف كل من نسبة الزيادة وحجم الدين الذي شارف على 11 تريليوناً. أما في الفترة الرئاسية الأولى لأوباما فارتفعت نسبة الزيادة إلى زهاء 12 في المئة وقفز الدين إلى 16 تريليوناً متجاوزاً الناتج المحلي. كذلك لا يوجد اتفاق نهائي على مستوى الدين الذي يمكن لبلد بعينه تحمله من دون تعريض نفسه لعواقب وخيمة. لكن صندوق النقد يرى في تجاوز نسبة 60 في المئة بالنسبة إلى الدول المتقدمة و40 في المئة في حال الاقتصادات الصاعدة مؤشر خطر يستدعي معالجة فورية في كل الحالات باستثناء حال فريدة تعيشها أميركا بكل تفاصيلها تتمثل في التعرض لركود حاد ناجم عن تعطل أكثر من عنصر من عناصر أو قاطرات النمو الرئيسية وهي المستهلك والإنفاق الحكومي والاستثمار وصافي الصادرات. وفي بلد يعاني عجزاً مزمناً في ميزانه التجاري لابد من استبعاد عنصر النمو الأخير إلى أن يتحقق وعد أوباما بمضاعفة الصادرات، وبما أن الشركات الأميركية لا تزال جادة في حصر استثماراتها في أضيق الحدود في بيئة تفتقر إلى اليقين فإن أميركا تملك في الواقع العملي قاطرتين من عناصر النمو الأربع لولا أن القاطرة الأولى، المستهلك الأميركي العتيد، يحتاج هو نفسه إلى دعم باهظ التكلفة للحفاظ على قوته الشرائية التي أعطبتها خسائر فادحة وأجور جامدة وبطالة عالية. دعم لابد أن يأتي، أو بالأحرى أن يستمر، من جانب حكومة مكبلة بالعجوز المالية القياسية وأخطار الدين. هل تعلن أميركا إفلاسها؟ لكن أميركا لا تستطيع الاستسلام لقدرها وإعلان إفلاسها، إن لم يكن بدافع الحرص على عشرات التريليونات من الدولارات الأجنبية المستثمرة في مصانعها وعقاراتها وسنداتها وأسهمها أو المودعة في مصارفها فبدافع الحفاظ على كبرياء القوة العظمى الوحيدة خصوصاً وهي ترى أنها لا تزال تملك الكثير من الأوراق الرابحة البديهية التي احتكرتها ردحاً طويلاً من الزمن وهي مهيأة لدعم قدرتها على التحرك باتجاه مخرج ما لأزمتها التاريخية في سنة تحد وخيارات صعبة. وفعلياً في آب (أغسطس) 2010 تحركت أميركا بحسم باتجاه مخرجين محتملين: إما قبول خيار أوباما، الذي لا يعدو كونه نسخة أمينة لتوليفة كلينتون، وإما السقوط في الهاوية المالية الذي يعني في حقيقته خفض الإنفاق الحكومي بما يصل إلى تريليوني دولار في عقد والسماح بانتهاء مفعول التخفيضات الضريبية سواء منها تخفيضات بوش الابن الموقتة في الأساس أو تخفيضات إضافية سنها أوباما لدعم القوة الشرائية للمستهلكين من الطبقة الوسطى والمحدودة الدخل. والملفت أن الخيارين يجدان وفرة من المؤيدين المتحمسين خصوصاً خيار السقوط الذي يهدد بتعطيل حركة النشاط الاقتصادي في مرحلة أولية لكنه يعد بالقضاء على العجوز المالية ويعيد نسبة الدين إلى ما دون 60 في المئة في فترة قياسية نسبياً. أما الخيار الأول الذي يفضله المصرف المركزي وصندوق النقد فإن نجاعته تقل تدريجياً كلما طال أجله فهو مصمم في الأساس ليكون حلاً موقتا هدفه السماح للاقتصاد بتعزيز نموه وقدرته على توفير فرص العمل. ويبقى أن الشعب الأميركي أدرك أن تقرير الاتجاه الصائب يتطلب حلاً وسطاً يخفف من غلواء المواقف الإيديولوجية التي تحمس الجمهوريين ضد زيادة الضرائب على الجميع ولكن بتحيز واضح وصريح لصالح كبار الأثرياء والشركات الكبرى بينما تدفع الديموقراطيين للذهاب إلى أبعد حد ممكن في دعم الطبقة الوسطى. وعبارة أدق الشعب يريد من قطبي الكونغرس التخفيف من استهداف الطرف الآخر في قاعدته الشعبية كشرط مسبق لقيادة البلاد إلى بر الأمان.