تجاوز الدَّين الأميركي العام 11.5 تريليون دولار أخيراً، وفقاً لوزارة الخزانة، التي تُحدّث على موقعها على الإنترنت كل بضعة أيام أرقامه «حتى آخر سنت»، ويخشى كثر ان يشعل هذا الدَّين الأزمة الاقتصادية الأميركية المقبلة ويهدّد قبل ذلك الإصلاحات التي تعهّد الرئيس باراك أوباما تحقيقها خلال حملته الانتخابية وبدأ يضعها على طريق التشريع فعلاً، وفي طليعتها إصلاح نظام العناية الصحية الذي يكلّف وحده تريليون دولار موزعة على 10 سنوات يقول أوباما ان إدارته ستتمكن من جمعها من توفير في النفقات. وقعت الولاياتالمتحدة تحت عبء الدّين العام للمرة الأولى حين مولت ثورتها على المستعمر البريطاني بين عامي 1775 – 1783، وهو يتفاقم منذ ذلك الحين، وإن نما بوتيرة أسرع مع تسارع تحرير القطاعات الاقتصادية، خصوصاً منها المالية، بدءاً بفك الرئيس ريتشارد نيكسون الربط بين الدولار والذهب مطلع السبعينات، ومروراً بالتخصيص الواسع النطاق في عهد الرئيس رونالد ريغان، وانتهاءً برفع الرئيس جورج بوش الابن الضوابط المالية الخجولة التي كان وضعها سلفه بيل كلينتون. وليس نقل الوظائف في القطاع الخاص إلى بلدان تتمتع بيد عاملة رخيصة، ما فاقم العجز التجاري الأميركي، أقل مسؤولية عن المشكلة بكثير. يعني الرقم الأخير للدّين العام ان كل أميركي مدين بنحو 37 ألف دولار، فيما يزيد الإجمالي سنوياً بمعدل تريليون دولار. ومن أبرز المتخوفين من إشعال الدّين العام الأزمة الاقتصادية الأميركية المقبلة، مع بروز دلائل على تباطؤ التفاقم في الأزمة الراهنة التي طاولت العالم، رئيس مجلس الاحتياط الفيديرالي الأميركي بن برنانكي الذي قال أخيراً في جلسة استماع في الكونغرس: «إن لم نبرهن عن التزام قوي بالاستدامة على صعيد المالية العامة في الأجل الأبعد، لن نحقق استقراراً مالياً ولا نمواً اقتصادياً صحياً». وفيما يتمثّل الحل، وفقاً لعلم الاقتصاد، في زيادة الضرائب أو خفض المنافع والخدمات التي تقدمها الحكومة الفيديرالية، أو التدبيرين معاً، يناقض هذا الاحتمال جهود إدارة أوباما والكونغرس لإنعاش الاقتصاد من أسوأ ركود عرفه في عشرات السنوات من خلال تعزيز الإنفاق الفيديرالي وخفض الضرائب. ومع ان أوباما طمأن إلى توافر المال المطلوب لإصلاح نظام العناية الصحية، يرى كثر ان التوفير المتوقع من الإصلاح على صعيد الموازنة العامة قد يكون مضلِّلاً لأن المشروع الجارية مناقشته في الكونغرس يعامل النفقات الفيديرالية في القطاع وتلك التي تخصصها مؤسسات التأمين الصحي كأنها نفقات من طبيعة واحدة. وينبّهون إلى ان نمو الإنفاق على العناية الصحية بوتيرة فاقت نمو المداخيل الخاصة خلال السنوات ال30 الماضية هو ما أوصل الإنفاق على العناية الصحية إلى 16 في المئة في الناتج المحلي الإجمالي اليوم. ويرد مؤيدون للمشروع بأن النظام الحالي يهدر تريليون دولار فعلاً، إذا ما قورن بأنظمة مماثلة في بلدان يتمتع سكانها بمستوى عيش مماثل لما هو سائد في الولاياتالمتحدة، ويعطون فرنسا وألمانيا واليابان وفنلندا أمثلة، علماً ان الجميع تقريباً من مواطني البلدان المذكورة يتمتعون بتغطية صحية، فيما يبقى أميركيون كثر غير مغطين وتتدهور باستمرار نوعية الخدمات الصحية الأميركية. ويُقدَّر ان نظام العناية الصحية الأميركي، لو بقي على حاله، سيكلف 40 تريليون دولار خلال السنوات ال10 المقبلة، سيكون نصفها عبارة عن هدر. وهكذا لن يكون التريليون دولار مبلغاً كبيراً إذا قورن بالتوفير الذي سيتحقق من الإصلاح العتيد، وهو، في مطلق الأحوال، لن يفوق واحداً في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة خلال 10 سنوات. وإذ بلغت خدمة الدَّين الأميركي 452 بليون دولار العام الماضي، حل الإنفاق الفيديرالي في هذه الفئة رابعاً بعد الإنفاق على العناية الصحية والضمان الاجتماعي والدفاع. ولا يستبعد كثر ان تصعد مرتبة الإنفاق على خدمة الدَّين بين مراتب الإنفاق الفيديرالي في السنوات القليلة المقبلة. وتعاني وزارة الخزانة صعوبات في العثور على مقرضين جدد. يذكر ان الولاياتالمتحدة لم تعش من دون دَين عام إلا في السنة المالية 1834 – 1835، كما لم يتراجع هذا الدَّين إلا بين عامي 1998 و2000 مع توافر فوائض في الموازنة جراء الانضباط في المالية العامة الذي فرضته إدارة كلينتون، لكن الفوائض، كما تبيّن لاحقاً، لم تتحقق إلا نتيجة نمو محموم في الاقتصاد كانت له عواقب سلبية لاحقاً. ونما الدَّين العام في شكل كبير خلال عهد بوش الابن بسبب الحربين في أفغانستان والعراق والإنفاق على الإنعاش الاقتصادي في آخر عهد بوش الابن ومطلع عهد أوباما. وهو اليوم يفوق 80 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الأميركي، ومع أنه أقل من المستوى الذي عرفه في الحرب العالمية الثانية (120 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي)، فهو كبير. وتأتي الصين فاليابان فالدول النفطية في الخليج في طليعة مقرضي الولاياتالمتحدة، ومع ان سندات الخزانة، وهي وسيلة الاقتراض الأميركية الأمثل، تُعتبر مأمونة في أزمة كالتي يمر بها العالم اليوم، فقدت السندات الأميركية كثيراً من بريقها مع تراجع قيمة الدولار بسبب الإنفاق الإنعاشي الفيديرالي الضخم، ناهيك عن خفض أسعار الفائدة الأميركية. ولو نفرت الدول التي تقرض واشنطن، ستقفز أسعار الفائدة لتفاقم الركود مجدداً. مما قد يشفع للولايات المتحدة ان أعباءها الاقتصادية هي مالية في الأساس وخارجية في معظمها، ما يجعل مقرضيها المترددين في منحها مزيداً من القروض يفكرون مرتين قبل بيع ما يملكونه من سندات الخزينة الأميركية خوفاً من ان ينعكس تعثرها المالي على أوضاعهم المالية هم. لكن واشنطن ستفكر مرتين كذلك قبل ان تحاول ممارسة ضغوط سياسية على هؤلاء.