لم يخطر ببال الإنسان العربي عندما بايع الدولة في زمن الاستقلال أنها ستكون مع الوقت مقدمة للاستبداد. لم يخطر على بال معظم العرب أن ما ينتظرهم بعد حرب 1948 ثم بعد حرب 1967 هو في البداية حكومات وطنية متأثرة بالناصرية ذات الطابع الشعبي القومي، لكن ذلك البعد الشعبي القومي سيختفي وسيرثون مع الوقت أنظمة عسكرية وأمنية لا تمتلك فكراً أو رؤية أو حتى حساً شعبياً وعربياً. ستبرر هذه القيادات العسكرية دورها التسلطي على أرضية الأمن والاستقرار كشرط للتنمية. لم يخطر ببال العرب في الوقت نفسه أنه حتى الأنظمة الملكية الممتدة والقائمة على المعادلات التقليدية الأكثر رحمة ستكون أفضل حالاً لكنها هي الأخرى ستؤسس حكماً قائماً على عدم المشاركة إلا في أضيق نطاق. إن الذين استلموا السلطة في العالم العربي وجدوا في السلطة عادة وقوة. مع الوقت عمقت الأنظمة من امتيازاتها وامتيازات المحيطين بها، وقسمت الشعب إلى طوائف وفئات مقنعة كل فئة بأنها ضمانة عدم اعتداء فئة على أخرى. ومن جهة أخرى لم تجد الأنظمة صعوبة في جعل المواطن العربي يتقبل سلطتها القائمة على عدم المشاركة. ربما عاد هذا إلى طبيعة المجتمعات العربية المعتادة على القبول «بالحاكم الذي تعرفه خوفاً من الحاكم الذي لا تعرفه»، لكن جانباً منه ارتبط بحدة القمع والإقصاء وفي حالات كثيرة التصفيات والسجون. لقد قبل العربي الدولة وتقبل مزاجيتها وعليائيتها، وفسر ذلك على أنه جزء من ضريبة الاستقرار. المواطن العربي قبل بمبدأ تسليم أمنه وحقوقه للسلطات السياسية العربية لأنه أراد أن يجرب ما ينسجم مع تاريخ عربي لم يعرف سوى الرعايا السلبيين أو قبائل ثائرة. لقد وثق المواطن العربي بالسلطة وسلمها دفة القيادة من دون علم منه بما ينتظره. لكن التاريخ لا يكاد ينتهي في زمن إلا ويبدأ مجدداً في زمن آخر. لهذا بدأت الشعوب العربية تكتشف أن النموذج الذي بدا عملياً وممكناً في الخمسينات والستينات وحتى الثمانينات من القرن العشرين لم يعد كذلك في الألفية الثانية. اكتشفت الشعوب بهدوء وصمت إنها تعيش في قفص كبير وأنها متأخرة في التنمية وفقيرة على رغم الغنى الزراعي والمالي الذي تتمتع به بلادها، ووجدت نفسها على هامش التاريخ لا تقوى على تقرير مصيرها. وقد اعتبرت الدولة أن كل مبادرة من المجتمع تمثل انتقاصاً لها وأن كل انتقاد هو سهم مصوب إلى قلبها. وهذا بدوره جعل المجتمع يتخلى عنها منتظراً انهيارها وموتها. وتؤكد التجربة التاريخية للدولة بشكل عام وللدولة العربية بشكل خاص بأنها لا تتطور ولا تتقدم ولا تصلح إن لم تعتمد على مجتمع حي متحرك يفكر بصوت عال ويمتلك حريات ثابتة وقدرة على التجديد. وبإمكان الدول أن تكون متوقدة في فتراتها التأسيسية الأولى بالاعتماد على مؤسس أو قائد محفز، لكن ما أن تنتهي الفترات الأولى إلا وتمر بمرحلة فراغ وإعادة إنتاج لذات الصور والهياكل القديمة التي تفقد تأثيرها. إن المجتمعات التي تعيش في ظل حرية وكرامة مضمونة هي الوحيدة في الإقليم العربي في الزمن الحديث القادرة على مد الدولة بالدماء الجديدة والتجديد. لقد أضاعت الأنظمة العربية البوصلة، واعتقدت أن سكوت الإنسان العربي هو تعبير عن القبول والراحة، بل اعتقدت أنها في وضع آمن بفضل حالة الصمت. إلا أنها لم تنتبه إلى أن الصمت لم يكن سوى تعبير عن حيرة وتساؤل وأن السكوت لم يكن طبيعياً. سكون الشعوب وسلبيتها كانا مضللين للأنظمة. إن الثورات العربية والحركات الإصلاحية العربية الراهنة هي محاولة جادة لإعادة تعريف دور الدولة في المجتمع العربي. فبعد أن كانت الدولة العربية تمتلك صلاحيات مفتوحة وقدرات لا حدود لها على التعسف تحت مسميات دينية أو أمنية وسياسية نجد في التعريف الجديد أن الدولة يجب أن تكون محددة الصلاحيات والواجبات. في الثورات العربية والحركات الإصلاحية العربية سعي لوضع الدولة في حدود المجتمع وضمن دائرته وتنوع تحركاته، بل يمكن تعريف الربيع العربي على انه المحاولة الأهم والأجرأ في التاريخ العربي الحديث لاستعادة روح المجتمع وتحويل الدولة في الوقت نفسه إلى أداة لصالح المجتمع وحرياته وتطور أفراده. إن شعار التداول السلمي على السلطة محاولة من قبل المجتمعات العربية لجعل الدولة مساحة عامة لا تسيطر عليها فئة محددة، وهو سعي لاستعادة حيادية الدولة وأهمية وقوفها على المسافة نفسها من جميع القوى التي تتحرك في المجتمع. في الواقع العربي الجديد الدولة وعاء عام يتم التداول عليه من قبل قوى عدة يفرزها المجتمع. فالتداول إدارة موقتة للدولة ومنع لوقوعها تحت سيطرة التسلط والاحتكار والاستفراد. ولو تمعنا سنجد أن الفرد هو أصل الأشياء: الرسول كان فرداً، والذين فجروا الثورة المصرية والثورات العربية كانوا قلة من الأفراد. الفرد يسقط دولاً، الفرد يصنع حضارات والفرد أقوى قوة في التاريخ. جان جاك روسو فرد. أبو ذر الغفاري فرد. كارل ماركس فرد. وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب أفراد. التاريخ يحركه أفراد ويبرزهم إلى السطح نتاج حرمان وسوء معاملة ومعاناة وألم. إن التشريعات التي تميز ضد حقوق الفرد هي أصل الداء، كما أن كل سعي للحد من مبادرات الأفراد والمجتمع لتنظيم شؤونه بحرية سيؤدي إلى تعميق الصراع في كل بلد. الحرية لن تكون ممكنة في البلاد العربية إلا عبر استقلال القضاء وتأمين الحريات في ظل التداول السلمي على السلطة. في النهاية لا قيمة لمجتمع لا يحترم أفراده. فالفرد أضعف حلقات المجتمع وانتهاكه يتحول حتماً لانتهاك لكل المجتمع كما حصل مع الدول العربية عبر عقود عدة. إن الهدف من الثورات العربية في الجوهر هو تطويع الدولة العربية وتحويلها من جهاز متعال يتخصص في القمع إلى جهاز يخدم المجتمع ويعكس تطلعاته. لن ينتهي الفصل ويغلق المسرح العربي الذي رفعت ستائره مع الثورة التونسية إلا عندما يتحقق في البلاد العربية الاقتراع الكامل والتداول على السلطات والحريات الأساسية لكل مواطن ومواطنة. ستشهد السنوات المقبلة استمرار سعي الشعوب لتطويع الأنظمة. * أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت twitter:@shafeeqghabra