لا ينقطع سيل الأخبار السيئة الآتية من سورية، فالحرب الأهليّة مستمرة، وعدد الضحايا إلى ازدياد، والخطوط الديبلوماسيّة أصابها الشلل. لكن التقارير الإعلاميّة الحادة اللهجة تُظهر أنّ ثمة جهة وراءها، وبرزت تقارير عن نيّة الأسد استخدام السلاح الكيماوي، وعلى رغم أن مصدر الخبر غامض، تفشى وانتشر. وتحدثت تقارير أخرى عن أن أيام النظام السوري باتت معدودة، وأنه يرسل مبعوثيه إلى الخارج ليبحثوا عن بلد يستقبله في المنفى، وأنّ روسيا بدّلت موقفها المتشدد إزاء الأزمة. وجلي أن الوضع في سورية يتجه إلى الأسوأ، ولكن ليس أكيداً أن الرئيس الأسد يريد أن يلقى مصير الرئيس اليمني، أي أن يقبل الحصول على الحصانة مقابل التخلي عن السلطة. والحقّ أن الوضع في سورية لا يشبه نظيره اليمني ولا النموذج التونسي، ففي اليمن ارتضى الرئيس ترك الرئاسة، وفي تونس سارع الرئيس الى الهرب في الوقت المناسب. التغيير السريع في سورية لم يحصل لسببين: أولهما «طبيعة» النظام، فهو استبدادي يتوسل جهازاً قمعياً فعّالاً، وثانيهما «تركيبة» المجتمع المعقّدة البنية والمتنوعة، وهي حالت دون انهياره. ولا يمكن إرساء الاستقرار في سورية في مثل هذه الظروف المعقدة إلا من طريق نظام مركزي استبدادي قمعي أو نظام سياسي معقّد يحفظ التوازنات المذهبيّة والإثنيّة، على مثال النظام اللبناني أو البوسني الأقل نجاعة. والخيار الأول لم يعد ممكناً لأسباب جلية، فالوضع الخارجي تغيّر، والنظام نفسه تآكل وأصابه الضعف. ولا أحد يعلم ما هي الطريق المثلى لانتهاج الخيار الثاني (النموذج اللبناني أو البوسني). ويسع النظام الديموقراطيّ أن يرسي توازناً بين الجماعات، لكنه نظام هش، مشرَّع حتى في أكثر الدول المتطورة على انتكاسات خطيرة، فكيف به في المجتمعات الخارجة تواً من الصراعات الأهليّة. والديموقراطيّة في سورية هي صنو حكم الغالبية. ومثل هذا الحكم دقيق و «حساس»، فالحكم العلوي يدين في صموده إلى حسبان الأقليّات الأخرى أنه خير الشرور قياساً إلى حكم الغالبيّة السنيّة. والديموقراطية المولودة على يد «الجيش السوري الحرّ» لا تطمئن غالبية السوريين، وعليه يتوقع أن تتواصل النزاعات بعد سقوط نظام بشّار الأسد، فجيشه البالغ عديده 300 ألف رجل، سيشكل مجموعات وعصابات مسلحة للدفاع عن النفس. المأساة السورية طال أمدها، فوصلت الأحوال إلى طريق مسدود، فمن جهة، العودة إلى الوضع السابق ليست معقولة ولا ممكنة، ومن جهة أخرى، ومع تواصل فصول الحرب، بدأت الثقة بالمعارضة التي تنحو أكثر نحو التطرّف، تتبدد. كثيرون ممن يتطلعون إلى بقاء نظام الأسد يرون أنه سد أمام الهجمة الإسلاميّة. هل يملك بشّار الأسد الخيار لو أراد التنحي عن الحكم؟ لقد أَفَلَت المرحلة التي كان من الممكن فيها التفاوض على تسليمه دفة الحكم، والحلّ اليوم وثيق الصلة بحصول حوادث تغيّر التوازنات الميدانية، على غرار انطلاق شرارة أزمة أخرى في المنطقة تحوّل الأنظار والضغوط عن الأزمة السوريّة. ولن تسمح حاشية الأسد له بالرحيل بعد اليوم، فرحيله هو صنو «نهايتها» وخسارتها خسارة كبيرة. وقد يحصل الأسد، ولأسباب سياسيّة، على بعض الضمانات من الثوار، لكن حاشيته لا يمكن أن تعتمد على رحمتهم في ضوء هذه الحرب المذهبيّة. لقد أسقطت المعارضة خيار المفاوضات، فهي على يقين من أن النصر حليفها، لذا يبدو أن الصمود الى النهاية هو الحلّ الوحيد المنطقي المتبقي للأسد. والأنظار شاخصة إلى روسيا التي يحسِب بعضهم أنها تملك حلاًّ سحرياً لرحيل الأسد. ولكن، مع الأسف، جعبة موسكو خاوية، والخيار الوحيد أمام الأسد هو مواصلة الحرب. * محلّل سياسي، رئيس لجنة مستشاري مجلسي السياسة الخارجية والدفاعيّة الروسيّة، عن صحيفة «روسيسكايا غازيتا» الروسيّة 12/12/2012، اعداد علي شرف الدين