نفى الروائي حسين علي حسين أن تكون مهمة المبدع إضحاك القارئ أو إدخال السلوى إلى نفسه، أو أن يكون «أراجوزاً»، لافتاً إلى أن مهمة المبدع سواء في الشعر أم النثر أم المسرح تتجلى في «نكء الجراح، والبحث عن سبل لتغيير المعوج معرفياً واقتصادياً واجتماعياً وسياسياً». وأوضح حسين علي حسين في حوار مع «الحياة» أن أحداث سبتمبر تعد مرحلة مفصلية في مسيرة الرواية السعودية، مشيراً إلى أنها أسهمت في إفراز أصوات محلية، مما جعل الرواية «تقف على رجلها». واستغرب ممن يستهين ب«القصة القصيرة» والتي اعتبرها أصعب فنياً من الرواية، إلى نص الحوار: انطلق من الموت، من الاستسلام، من العجز، في روايتك الصادرة حديثاً بعنوان: «حافة اليمامة» كأن تنحاز إلى الهزيمة الملازمة.. ما تعليقك؟ - الفلاح بطبيعته ابن بيئة تحثه على الاستسلام، وكان شعاره دائماً «الذي تأتي به المياه تأخذه المياه» وتفسير هذه العبارة بحاجة إلى وقفة أتركها لمن يقرأ ويرى ويسمع ويعايش، لكن الفلاح على رغم ذلك يبقى مثل طائر الرخ، قادر على العودة من جديد في أي وقت، وأي زمان وأي مكان! ما يأتي به النص تسجيل حال، حال مرحلة، لكن هذا التسجيل ليس دعوه للهزيمة أو الموت، وإلا هل ينزح الباحث عن الموت لعبور الصحراء تاركاً أرضه وناسه بحثاً عن حياة أفضل؟ كان بإمكانه أن يبقى معانقاً إحباطه وألمه من البطالة وشح القوت، الرحيل في حد ذاته بحث عن مستقبل أفضل، أرض جديدة، وجوه جديدة، مجتمع جديد! الفلاح رغم إحباطه يعيش على الدوام ثنائية الموت والحياة، شح الماء والعمل لعودتها وهكذا!! كان يجب أن تكون: «حافة اليمامة» أوسع طالما هي تتحدث عن النزوح إلى بلد آخر مختلف، كان لشخوصك أن تفعل أكثر، ما تعليقك؟ - هذه الرواية كتبت قبل 25 عاماً، ليست جديدة وليست قديمة، وأنا أعتبرها تجربة أولى، كتابه خارج ما اعتدت على كتابته، ومع ذلك فإنني أقولها بصراحة لم أعتد الحديث عن مضامين أو مستوى كتاباتي. إنني أترك ذلك للغير، طالما خرج العمل من بين يدي فأنه لم يعد يخصني، إنني أبحث الآن عن نص آخر، أقرأ الرواية وأكتب، أنت كقارئ أو ناقد «الروشتة» التي تريد لعلاج سلبياتها أو إيجابياتها، ذلك حقك وحق كل قارئ، أما أنا فإنني ببساطه من اليوم الذي أنهي فيه نصاً أجلس على مقاعد المشاهدين، لأسمع وأرى فقط، لكنني لن أغير شيئاً، انتهى دوري تجاه العمل بمجرد نشره! يتذكر المتابع والمشهد الثقافي ملامح جيل السبعينات، وكنت بارزاً برفقة أسماء مهمة، مثل عبدالله باخشوين، عبدالعزيز مشري، محمد علوان، جبير المليحان وغيرهم، فكيف تقرأ جيل الثمانينات الذي حضر بعد تجربتكم في القصة القصيرة، وما هي الأسماء التي يشير إليها حسين علي حسين؟ - الكتاب عموماً مثل الأحصنة في ميدان السباق، الذي يركض حتى آخر الشوط من دون أن ينقطع نفسه هو الفائز، وأرى أن النخل كثير، لكن التمر أقل من القليل، ولا أحد يعترف أن نفسه انقطع من الجري، وهذه بحد ذاتها فضيلة تحسب لصاحبها، لكن هل يقر بذلك من يجلسون على المنصة ويرقبون السباق؟ هذا هو السؤال! حين بدأت كتابة القصة القصيرة كان هناك أكثر من مئة كاتب جربوا كتابة القصة القصيرة ولو لمرة واحدة، حتى الباحثين والنقاد وكتاب المقالات والشعراء كتبوا القصة القصيرة، كانت هناك ثورة أشبه بثورة الرواية الآن، لكن من بقي من هؤلاء؟ من الذي ما زال يفتح شهية القارئ والباحث من جيلنا حتى الآن؟ أقل من القليل! وهذا الكلام انطبق وسينطبق على الذين جاؤوا بعدنا بأعوام قليله وكثيرة، ولن أطرح أسماء قديمة أو جديدة فلست ناقداً، لكنني باختصار أحب القصة، القصة القصيرة بالذات، وإن كنت قارئاً جيداً للرواية منذ وعيت وحتى أيامي هذه، ألاحق الروايات في معارض الكتاب كافة، هناك كتاب تابعت إنتاجاتهم وما زلت من الجيل الذي أتى بعدنا، مع أنني لا أؤمن بقضية الأجيال، ومن هؤلاء: عبدالعزيز مشري، فهد العتيق، يوسف المحيميد، عبده خال، أحمد الدويحي، أميمة الخميس، عبدالعزيز الصقعبي. سجلت حضوراً لافتاً في مجموعة: «طابور المياه الحديدية» سواء في الرمزية التي زاوجتها مع الواقع أم في الحفاظ على بنية القصة الكلاسيكية المتجددة لديك في شكل قل عند مجايليك فهل هذه المجموعة ومجموعة «ترنيمة الرجل المطارد» تعتبران عنواناً لتجربة طويلة في كتابة القصة القصيرة وهل تعدهما علامتك الفارقة؟ ليست هناك علامات فارقة بالنسبة لي تحديداً، أنني أكتب فقط، هناك نصوص عندما أنتهي منها أحس بأنها جيده أو مميزة، لكن من يقرأ ربما لا يلتفت لها، ذلك كان يحزنني، هذه حال البداية. أما الآن فإنني أكتب فقط، بل في مرات كثيرة لا أنشر ما أكتبه في الصحف، لا أستشير أحداً، حتى الإهداء أمارسه في أضيق نطاق، لكنني في المجمل أعتبر نفسي محظوظاً إذ كتب عن إنتاجي نقاد كبار، وأجريت معي لقاءات عن أعمالي، بل إن العديد من مؤلفاتي كانت مجالاً للعديد من الأبحاث والدراسات الأكاديمية، وأنا بطبعي انطوائي، أحب المنزل والمكتبة والمقهى، أقرأ كثيراً وأكتب قليلاً، وعدت مؤخراً بعد توقف متواصل لمدة 20 عاماً لإصدار «حافة اليمامة» و«المقهى» و«مزيكا». لم أتوقف عن الكتابة في أي وقت لكنني توقفت عن النشر، كنت أشعر بالقرف مما يدور حولنا، لكنني الآن عدت، عدت لإيماني بأن الكتابة، المزيد من الكتابة خير علاج، ولا أدري والله إن كنت فيما كتبت، قدمت شيئاً يمثل إضافة !! ماذا عنت لك الرواية إمام القصة القصيرة؟ وكيف تجد استجابتك وحاجتك لها؟ - المبدع هو المبدع، عندما يكتب رواية أو مسرحية لن يخرج عن الخط، كاتب القصة القصيرة مؤهل أكثر من غيره لكتابة الرواية، فهو بطبيعته لديه ميل للإيجاز، لا يحب الهدر، لا يوجد كاتب قصة قصيرة أو روائي لم يكتب الجنسين، خذ كافكا، ألبير كامو، فوكنر، تولستي، ومن العرب الطيب صالح، نجيب محفوظ، الطاهر وطار، محمد البساطي، يحيى حقي، تكبر الفجوة عندما تجد ناقداً أو باحثاً أو عالماً يطرق باباً مثل هذا. لدينا الآن عشرات يكتبون الرواية، مثلما لدينا عشرات يكتبون القصة القصيرة، كثير منهم يصح أن نطلق عليهم «عابرون في كلام عابر»، لكن لدينا من سجلوا إضافة، أكتب الآن الرواية وأكتب القصة، وفي كل منهما لا أتوقع في حال النشر خيراً أو شراً، يكفي أنني مارست الكتابة، إنها صمام أمان من الآلام والهموم، حالما أنتهي من الكتابة أحس وكأنني ولدت من جديد. طيلة هذه التجربة من القصة وحتى الرواية، ما الأسماء التي نالت اهتمامك ومتابعتك، وهل هناك ملامح واضحة للتسعينات في القصة القصيرة، ومن أين بدأت الرواية السعودية بالوقوف مكتملة وناضجة. ما الأسماء التي كتبت الرواية فعلا؟ - في البداية لفتت نظري روايات عمنا الكبير إبراهيم الناصر الحميدان، الذي كان مخلصاً لفنه، ثم جاءت الأسماء الجديدة وهي كثيرة، بعضها غامض وبعضها يغلب على نصوصه الادعاء، وهناك الفج والمجاني والاستعراضي، سأكون واضحاً هناك نصوص قليلة لفتت نظري، أبرزها طوق الحمام لرجاء عالم، الطين لعبده خال، ساق الغراب ليحيى امقاسم، الآخرون لصبا الحرز، شارع العطايف لعبدالله بخيت، فتنة حيرة لمقبول العلوي، جانجر لطاهر الزهراني، والوراقة لأميمة الخميس. وفي القصة القصيرة لفتت نظري أصوات كثيرة جاءت بعدنا، منها منصور العتيق وفهد العتيق وأميمة الخميس وعبدالله التعزي ومحمود الزاوري وعبدالله العقيبي ويوسف المحيميد. لم تقف الرواية السعودية على رجلها إلا بعد أحداث سبتمبر، والتي تعد مرحلة مفصلية، وبها أحسست وأحس الناس بأن الستائر مزقت، صحيح أن بعضها جرى وقتها على عجل، لكن الكثير من جدران الخوف والقلق جرى هدمها، وهي حاله تشبه ما يعرف الآن بالربيع العربي «وأنا أسميه الخريف» قياساً على ما قبله، هذه المرحلة شقت فيها كافة البراقع، وهي التي أفرزت أصواتاً روائية محلية مهمة، مثل رجاء عالم وعبده خال ومحمد حسن علوان وعبدالله بخيت وآخرين. أما ما يخص الملامح الواضحة لجيل التسعينات من كتاب القصة فلم يكن هناك تغيير عمن جاء قبلهم من جيل السبعينات، والذي ظهر بعد هزيمة يونيو هو الذي أسس لانطلاقة القصة الحديثة، هذا الجيل جيل غاضب، مهزوم، ظلال الهزيمة طافية على رأسه، وهو كاشف صادق عن الجهل والفقر والألم، وفوق ذلك كله الهزيمة! الكاتب المتفائل، الضاحك، الستار «على الآلام والهزائم» لا يعوّل عليه.. هذا رأيي! .. سأظل أشكو وأدل على مناطق الخلل أوضح الكاتب حسين علي حسين أن كل كاتب يعبّر عما يرده وعما هو تحت رجليه، «إنه يعبّر ويطرح ما يراه، لكن التعديل والإصلاح أو العلاج ليست مهمة المبدع، على المبدع أن ينير وليس عليه الدلالة على الطريق، الرواية أو القصة أو الشعر أو حتى المسرح ليست صدى أو تعبيراً عن الانفلاتات أو الحوادث المفصلية - سياسياً واقتصادياً و اجتماعياً - التي تمر بها الأمم، إن الإبداع يقدم إشارات، يعرض لواعج النفس أو الحجر أو النبات، لكن الإبداع في المجمل هو صدى أو تنبؤ للخلل الذي يراه المبدع، ويأتي وقت نجد أن نصوصاً أو أقوالاً أو مواقف أو تحذيرات لبعض المبدعين تحققت على أرض الواقع، والشواهد في هذا الصدد كثيرة». وأكد أنه سيظل يشكو ويدل على مناطق الخلل، «فهذه هي وظيفة المبدع، وهو في كل حال ليس أراجوزاً، مهمته إضحاك القارئ أو إدخال السلوى إلى نفسه، مهمة المبدع هي نكء الجراح، والبحث عن سبل لتغيير المعوج معرفياً واقتصادياً واجتماعياً وسياسياً»، مشيراً إلى أنه لم يكتب الرواية إلا مؤخراً، «وروايتي الأولى حافة اليمامة كتبت منذ أعوام، وليست بنت اليوم»، معتبراً أن القصة القصيرة «أصعب فنياً من الرواية، وليس في ذلك تقليل من الرواية، أو رفع من قيمة القصة القصيرة، لكن ما جعلني أقول ذلك هو أن هناك للأسف من يستهينون بهذا الفن الجميل (القصة القصيرة) وينسون أن كبار كتاب العالم خرجوا من عباءات غوغول وتشيكوف وموبسان، ولم يخرجوا من عباءة تولستوي أو دوستويفسكي». وبخصوص القصة القصيرة قال: في السابق كانت هناك هرولة تجاه كتابة القصة القصيرة، وانتهت هذه الهرولة بانقطاع أنفاس كثيرة، وبقاء أنفاس قليلة لكنها نظيفة، مخلصة مع نفسها ومع النصوص»، مشيراً إلى أن ما حدث مع القصة القصيرة حدث مع الرواية، «شعراء ونقاد وأدباء وكتاب مقالات ووعاظ، كلهم كتبوا، ما أعتقد أنه رواية، كل مصدور أطلق نفثته، وهذا جيد، على الجميع إخراج مكنونات صدورهم، وعلينا كقراء تحليل هذه المكنونات، أرى الآن من موقع القارئ، أن الجيد قليل لكنه كاف، وسيتأصل في مقبل الأيام، كنا نخاف من الفضفضة، من الثرثرة، الآن أصبحت الحواجز قليلة، لا تقاس بما كنا عليه قبل ربع قرن. كنا نتحرج من ذكر اسم مركز شرطة، تصوير جندي، أو ذكر اسم قبيلة أو عائلة، حواجز، بعد أحداث سبتمبر، لا تدري ماذا حدث، كل من كان أمامه بلون فجّره، هناك بالونات مليئة بالغاز، بالونات مليئة بالأكسجين، بالونات مليئة بالهواء النقي، عصر الرواية في المملكة بدأ، وعلينا التفاؤل بأن القادم أجمل وأقوى، لكن لن يتوهم أحد، بطبيعة الحال أن ذلك سيكون على حساب القصة القصيرة».