بعد أيام سينعقد مجلس الوزراء لإقرار الموازنة العامة للدولة، وسنجد فيها كالعادة كثيراً من بشائر الخير بإذن الله وحمده. سيأخذ التعليم والتدريب نصيب الأسد من الموازنة بأكثر من 25 في المئة. على رغم أهمية التعليم والتدريب، إذ إن كليهما وسيلة أساسية للرقي والتقدم، فالغاية الأمثل والأهم هي العمل. لا يزال العمل والتشغيل لم يأخذ مكانه من وعي واهتمام المجتمع، بدءاً بالمنزل مروراً بالمدرسة أو المعهد أو الكلية، وانتهاء بالمنشآت سواء أكانت حكومية أم قطاعاً خاصاً. في حالتنا، شبه الاستثنائية، نجد أن الدولة تنفق أموالاً طائلة في التنمية، سواء في مشاريع معتمدة في الموازنة أم من فائض الموازنة، بهدف التسريع في التنمية وتوفير فرص عمل، إلا أن البطالة تتزايد بشكل مقلق، والسبب، من وجهة نظرنا، أمران: الأول، عدم تشخيص حالة العمل التي تفاقمت إلى مرحلة التحدي ثم الأزمة. الثاني، نقص الدعم الموجه لوزارة العمل التي تعنى بمستقبل نصف الشعب من المواطنين وقرابة عشرة ملايين عامل وافد. أما حال التشخيص ومعرفة سيكولوجية سوق العمل فاجتهدت وزارة العمل منذ فصلها عن الشؤون الاجتماعية في تلمس طريق الصواب، وقضت في هذا الأمر قرابة ثمانية أعوام لم تثمر عن شيء ذي وزن في ما يخص «السعودة» والتوطين، إذ إن برنامج «حافز» كشف المستور وأبان عيوب إحصاءات مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات بوزارة الاقتصاد والتخطيط. كما كشف برنامج «حافز» عن عيوب اجتماعية وثقافية مريرة، بداية في معرفة كنه وهدف البرنامج، إذ يعتبره الكثير هبة ملكية غير مشروطة وغير محددة المدة، وفي ذلك كثير من الجهل. كما كشف «حافز»، أيضاً، أن قرابة 85 في المئة من المستفيدين من الدعم المالي هم من النساء اللائي يشكلن الحلقة الأصعب والأضعف في التوظيف والتوطين، فلدينا ثقافة اجتماعية ترفض عمل المرأة، كما أن كثيراً من قطاع الأعمال غير متحمسين لتوظيف النساء، لما لذلك من كلفة لوجستية تتطلبها الأنظمة والأعراف، من ناحية. وعدم إمكان نقل الموظفة من مكان إلى آخر تبعاً للأعراف السائدة، من ناحية أخرى. أطلقت وزارة العمل وذراعها الثرية صندوق تنمية الموارد البشرية برامج ومبادرات متعددة يمكن أن تسهم في تنظيم سوق العمل على الأمد الطويل، ولكنها بالمجمل لم ولن تؤثر إيجاباً في «السعودة» والتوطين بشكل عاجل وسريع. لكن، وللأمانة، خلقت اجتهادات ومبادرات وزارة العمل والصندوق بيئة جدلية إيجابية، إذ نقلت «الكرة» إلى ملعب التجار وقطاع الأعمال، بحيث أصبحت «السعودة» تشغل جزءاً من تفكير التاجر حول أي مشروع؛ لذا، تتسم المرحلة الراهنة بالسجال والاحتيال، فكلما أصدرت الوزارة برنامجاً أو مبادرة جديدة، تصدى لها التجار بالرفض والدخول في جدل وجدل مضاد من ناحية، وامتهان الاحتيال والتحايل من ناحية أخرى، حتى أصبح كثير من قرارات وزارة العمل ردود أفعال لسد ثغرات يتحايل منها التجار، لكن هذه المرحلة طبيعية في قطاع «مدلل»، لا تلبث أن تتلاشى لثلاثة أسباب: الأول: الإصرار والمتابعة والحزم والعقوبات من وزارة العمل؛ الثاني: خروج بعض أدعياء التجارة أو «الدكاكنجية» من سوق العمل؛ وثالثاً: انتقال التجار الحقيقيين والجادين إلى مفهوم أفضل في تطبيقات الموارد البشرية ومن أهمها تخطيط القوى العاملة. يبقى لنا الحديث عن جوهر المقال، وهو دعم وزارة العمل من الدولة بالمال والكفاءات لكي تستطيع أن تنفّذ وتتابع برامجها ومبادراتها. وهنا نود أن نطرح رقماً للموازنة المفترضة لوزارة العمل، وهو 8 آلاف مليون كحد أدنى، وتوصلنا إلى هذا الرقم بمفهوم ومعادلة بسيطة، أولاً: يمكن تعريف «السعودة» على أنها «منتج اجتماعي عزف عنه المستهلك». ثانياً: الدولة تنفق على التعليم والتدريب - أي الإنتاج - قرابة 160 ألف مليون ريال سنوياً. ثالثاً، أي منتج يحتاج إلى موازنة تسويقية، وفي حالتنا هذه افترضنا 5 في المئة من كلفة الإنتاج موازنة تسويق. النتيجة أن وزارة العمل تحتاج إلى دعم لموازنتها بما يتناسب مع حجم وجودة وكلفة المنتج الذي تسوّقه، ويمكن أن تزداد تلك النسبة بقدر المنافسة من ناحية، وحجم عزوف المستهلكين من ناحية أخرى. بالتوازي مع ما سبق تتوجب على وزارة العمل إعادة هيكلة صندوق تنمية الموارد البشرية، وإعادة صياغة أهدافه التي تضخمت حتى فقد الصندوق قدرته على التركيز، وعلى رغم وجود صناديق مماثلة: صندوق التنمية العقاري، وصندوق التنمية الصناعي، وصندوق التنمية الزراعية، إلا أن صندوق تنمية الموارد البشرية بات نشازاً من بين تلك الصناديق في المهمة والأهداف والممارسة، فأصبح مثل «الشعير مأكول مذموم» كما يقول المثل الشعبي. يضطلع الصندوق بمهمتين رئيستين هما: التدريب والتوظيف، لكنه فشل في كليهما، لأنه لا يملك رؤية حولهما، ولا يملك المعرفة اللازمة لإدارتهما، ولا يملك الكوادر المتخصصة التي تمكنه من تفادي الأخطاء وبالتالي الفشل. نجح الصندوق في تسهيل برنامج «حافز» للمستفيدين مادياً، لكن مثل ذلك العمل تقوم به مصلحة معاشات التقاعد والمصارف منذ فترة طويلة، وهو اعتماد بيانات المستفيد، ومن ثم تحويل الدعم «الراتب» إلى الحساب المصرفي. تلك ليست مهمة الصندوق حتى وإن أرهقته. المهمة الحقيقية والهدف الوطني الذي أنشئ من أجله الصندوق هو التوظيف ثم التوظيف ثم التوظيف. وزارة العمل مطالبة أيضاً بتفعيل التفتيش والمراقبة التقليدية غير الإلكترونية - التي أحسنت في اعتمادها لتخفيف الأعباء وتسهيل تعاملات المراجعين (العملاء) - للتأكد من أمرين: الأول: درس ومعرفة متطلبات المنشآت ومساعدتها في تطبيقات الموارد البشرية. الثاني: مراقبة تنفيذ عشرات القرارات التي تخدم سوق العمل. وهنا لا بد من تخصيص التفتيش، لتوفير كوادر سعودية عبر شركات وطنية تؤدي مهمة معلومة وواضحة ومحددة في زيارة قرابة مليون منشأة تنتشر في طول البلاد وعرضها. كما أنها مطالبة بدعم مكاتب وشركات التوظيف الأهلية، وتطوير صناعة التوظيف لكي تصبح من الصناعات المستجدة في اقتصادنا الوطني أسوة بالدول المتقدمة. المبالغ الزهيدة التي يدفعها الصندوق لمكاتب التوظيف الأهلية لا تصنع إلا منشآت رديئة ومتهالكة، إضافة إلى ضعف وانعدام المعايير العالمية في التوظيف الأهلي، كل ذلك يلقي بمسؤولية كبرى على وزارة العمل لكي تنظم سوق العمل المتنامية بتسارع في الحاضر والمستقبل. أخيراً: دعم وزارة العمل بما يتناسب وحجم المهمة المطلوبة أمر ضروري وحيوي؛ وإعادة هيكلة صندوق تنمية الموارد البشرية أمر تأخر كثيراً؛ وتطوير قطاع التفتيش وخصخصته من متطلبات المرحلة؛ كما أن دعم وتطوير صناعة التوظيف الأهلي مسألة في غاية الأهمية، أربع قضايا عاجلة تنتظر وزارة العمل بعد إقرار الموازنة العامة. * باحث سعودي. [email protected]