غيب الموت أمس بطريرك إنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس أغناطيوس الرابع هزيم، اثر جلطة دماغية حادة تعرض لها أول من امس في لبنان، بعيداً عن سورية موطنه (محردة - حماه)، ومقر البطريركية الدائم. وسجي جثمانه امس في كنيسة مار نقولا - الأشرفية، بعدما نقل إليها من مستشفى القديس جاورجيوس محمولاً على الأكف، وسجي نعشه داخلها لتقبل التعازي وابرز المعزين كان الرئيس ميشال سليمان، على أن ينعقد المجمع الإنطاكي المقدس غداً في دير سيدة البلمند، لإعلان الترتيبات الرسمية لمراسم التشييع. ومن المقرر أن يعتبر يوم التشييع يوم حداد وطني في لبنان وفق مذكرة إدارية طلب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إصدارها. وقرعت امس أجراس الكنائس الأرثوذكسية في كل المناطق اللبنانية حزناً على «بطريرك العرب»، وهو لقب كان اطلق عليه بعد ترؤسه في العام 1981، الوفد المسيحي إلى المؤتمر الإسلامي في الطائف. حياة حافلة بالنشاط وطوى البطريرك هزيم بوفاته 91 سنة من حياة حفلت بالنشاطات الدينية، هو المتحدر من عائلة أرثوذكسية متدينة في سورية. تتلمذ في مدرسة والده المعلم أسعد. وانتقل عام 1936 إلى بيروت كمبتدئ تابع لمطرانية بيروت. وأنهى دراسته الثانوية في لبنان عام 1943. ودرس العلوم الفلسفية والتربوية في الجامعة الأميركية في بيروت ونال الإجازة عام 1945. وانضمّ إلى الخدمة في الأسقفية الأرثوذكسية المحلية، وخدم كمساعد للكاهن في القدّاس الإلهي ثم أصبح شماساً. عام 1945 أيضاً سافر إلى باريس حيث نال الإجازة في اللاهوت والفلسفة من معهد القديس سيرجيوس اللاهوتي، وبعد عودته إلى سورية عمل على تأسيس معهد البلمند اللاهوتي حيث خدم كعميد للمعهد. وكان الراحل أحد مؤسسي حركة الشبيبة الأرثوذكسية في سورية ولبنان عام 1942، والتي ساهمت في تنظيم الحياة الكنسية في بطريركية إنطاكية وتجديدها. وعام 1953 ساعد في تأسيس رابطة الشبيبة الأرثوذكسية العالمية، وأسس كلية البشارة في بيروت وتسلم إدارتها من عام 1953 حتى 1962. وعمل في لبنان على تأسيس معهد البلمند اللاهوتي حيث خدم سنوات عديدة عميداً، وصار في عام 1961 عضواً في مجمع الأساقفة المقدس؛ وانتخب عام 1970 ميتروبوليتاً على محافظة اللاذقية في سورية، وعام 1988 أسس جامعة البلمند وترأس منذ ذلك الحين مجلس أمنائها. وكان في الثاني من تموز (يوليو) عام 1979 نصب بطريركاً لأنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس خليفة لبطرس وبولس لأنطاكية العظمى ومقرها دمشق. وهو البطريرك ال 157 على إنطاكية. وإلى جانب لغته الأم العربية، كان البطريرك الراحل يتقن اللغتين الإنكليزية والفرنسية ويلم باليونانية والروسية. وسعى على رأس الكرسي البطريركي إلى «إعطاء ديناميكية جديدة إلى المجمع المقدس ونظر إلى رسم الأساقفة القريبين من الشعب والذين يسعون إلى تطوير الكنيسة والحياة الروحية بعيداً عن المناصب السياسية وأمور الحياة الزائلة». ومن إنجازاته التي وزعها المقر البطريركي للروم الأرثوذكس في البلمند، انه «اهتم بربط إنطاكية المقيمة بإنطاكية المغتربة وسعى إلى تنظيم أمور الكنيسة فأسس المجلس الأرثوذكسي للإنماء، ومركز الدراسات الأرثوذكسي ومؤسسات أخرى، إلى جانب إنجازات عديدة على صعد العمران والنهضة الروحية في أبرشيتي اللاذقية ودمشق - مقر الكرسي البطريركي». وله ترجمات عديدة ومنشورات في التاريخ واللاهوت. شخصيات رثته وفور إعلان نبأ وفاة البطريرك هزيم، توالت مواقف النعي والرثاء في لبنان، فيما أعلنت سورية عبر موقع وكالتها «سانا» (الرسمية) نبأ الوفاة كما صدر في بيروت. وأعتبر الرئيس سليمان غيابه «خسارة ليس لطائفته فحسب بل للبنان والعرب نظراً لما كان يتمتع به من حكمة وشجاعة ودعوة دائمة إلى الحوار والتلاقي». وتقدم بالتعزية «لأبناء طائفته في لبنان وسورية وبلاد الانتشار». ورأى ميقاتي في رسالة أن غيابه «يمثل خسارة كبيرة، رجل اعتدال ووفاق، آمن على الدوام بالحوار بين كل الأديان والطوائف والحضارات وبالعيش الواحد بعيداً عن التعصب والتقوقع ومنطق إلغاء الآخر، وبقي حتى اليوم الأخير من حياته يدافع عن هذه القيم ويرفض الاحتكام إلى العنف والحروب لحل النزاعات، أحد أبرز المدافعين عن القضايا العربية المحقة ولا سيما منها قضية فلسطين وشعبها». وقال راعي أبرشية عكار الأرثوذكسية المتروبوليت باسيليوس منصور: «رحيله خسارة كبيرة للشرق الأوسط والعالم، كان شخصية فاعلة ومتفاعلة لمصلحة الناس من دون تمييز من حيث الدين ولا العرق ولا الحزب». وقال بطريرك أنطاكية وسائر المشرق، رئيس مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك بشارة الراعي «قاد كنيسته بروح الراعي الصالح، بكثير من الغيرة والتفاني والحكمة، ولكي يعوض على الكنيسة بأب ورأس جديد وفقاً لقلب راعي الرعاة، سيدنا يسوع المسيح». ووصف مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ محمد رشيد قباني الراحل بأنه «كان رمزاً كبيراً من الرموز الدينية والعربية في لبنان والعالم، رجل الاعتدال والانفتاح والحوار والمحبة والعيش المشترك». وأوفد الرئيس السابق للجمهورية أمين الجميل النائب فادي الهبر إلى دار مطرانية بيروت للروم الأرثوذكس لتقديم واجب العزاء. وأعرب الجميل عن حزنه «لغياب مرجعية روحية لعبت دوراً أساسياً في الوحدة الوطنية والحوار بين الطوائف والأديان». وأبدى الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري أسفه لرحيل «وجه مشرق في تاريخ الكنيسة والوطن، امتدت رعايته على رأس الكنيسة الأرثوذكسية على مدى 33 سنة، عرف خلالها لبنان ودول المنطقة حروباً وخضات مختلفة، قابلها بصلابة المواقف التي تصون القيم والعيش الواحد والاعتدال والانفتاح، فقابله اللبنانيون أجمعين بالحب والاحترام. رحل في هذه الظروف التي نحن أحوج ما نكون فيها إلى الاستنارة بحكمة مواقفه والوقوف على آرائه السديدة لمواجهة التحديات». واعتبر رئيس كتلة «المستقبل» النيابية فؤاد السنيورة أن «لبنان والعرب خسروا ركناً كبيراً جداً من أركان الاعتدال والحكمة، وركيزة من ركائز الانفتاح والعيش المشترك في لبنان ودنيا العرب، كان راعياً وضامناً أساسياً للوفاق تتم الاستعانة به واللجوء إليه عند الشدائد والمحن، كلامه ميزان الكلام وكانت مواقفه تستند إلى العقل وتتوخى الهدوء والاستقرار وتؤكد فضيلة التبصر والالتزام والمصلحة العربية واللبنانية». ونعى رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع الراحل معزياً «إخوتنا المسيحيين في سورية، الذين يعيشون اليوم جلجلةً عسى ألا تطول إلى القيامة، ويمرّون في ظروفٍ هم بأمسّ الحاجة فيها إلى أبٍ وراعٍ، لكننا نشدّ على أيديهم». ورأى نائب رئيس المجلس النيابي فريد مكاري أن «الطائفة فقدت بغيابه رجلاً تاريخياً، قاد أبناءها بحكمة كبيرة في مرحلة صعبة من تاريخ منطقتهم والبلدان التي يعيشون فيها، لم يخش يوماً النطق بكلمة الحق، ولم يتردد لحظة في التعبير عما يتطلع إليه أبناء الطائفة، وكان من أشد المتمسكين بالوحدة الوطنية ويحز في نفوسنا أن يكون رحل قبل أن يشهد انبلاج فجر الحرية في سورية». واعتبر نائب رئيس مجلس الوزراء سمير مقبل الموجود في إيطاليا أن الطائفة الأرثوذكسية ستفقد «أباً روحياً وركناً أساسياً رعى شؤونها بحكمة وعقلانية وانفتاح على كل الأديان، وتمكن من الاضطلاع بدور مهم في لجم التعصب والتهور، إضافة إلى ما قام به على المستويين العربي والعالمي لتقريب وجهات النظر». ونعى نائب رئيس مجلس الوزراء السابق عصام فارس الراحل الذي «يغيب في مفصل تاريخي تعيشه منطقة الشرق الأوسط، وتشهد تداعيات شكلت هاجسه الأكبر. فقدنا قائداً شجاعاً وراعياً حكيماً، يترك لنا إرثاً ثميناً في مختلف حقول الحياة، سنعمل أوفياء لتجسيده في عيش حضارة المحبة والسلام التي اضطلع بها الراحل الكبير».