في خضم تباطؤ الاقتصاد الأميركي مع حلول عام 2008، عقد مسؤولون أميركيون لقاءً مع نظرائهم الصينيين في مدينة نيويورك، ليعبروا عن قلقهم من انهيار قطاعات مصرفية ومالية، فضلاً عن صناعات السيارات، فسألهم الصينيون: «لما لا تتدخل حكومتكم؟»، ليرد الأميركيون بالقول إن «النظام الرأسمالي مبني على اليد الخفية التي تحدد كيفية عمل السوق». فقال الصينيون حينها: «نحن لدينا اليد الخفية تعمل بالتعاون مع يد الحكومة». وبالطبع لم تكن اليد الخفية في الولاياتالمتحدة من منع الانهيار الاقتصادي الشامل، بل كانت الأموال التي أنفقها الكونغرس لإعادة تأسيس احتياطات المصارف وسد ديون شركات السيارات، ما دفع كثيرين في حينه إلى التهكم بالقول إن الحكومة الأميركية أمّمت الشركات وتملّكتها، وتحولت إلى دولة اشتراكية. وفي ذلك العام، بدا وكأن «رأسمالية الدولة» التي تنتهجها بكين أفضل وأمتن منها في واشنطن الليبرالية. ولكن مع مرور الوقت، أعادت الشركات الأميركية الأموال التي اقترضتها من الحكومة، واستعادت عافيتها وتنافسيتها المعهودة، ما بدا جلياً في قطاع السيارات الذي يسجل نمواً منذ سنوات يساهم في نمو الناتج المحلي. واليوم، وجدت الصين نفسها في موقع لا تحسد عليه، فشركاتها الضخمة التي تملك الحكومات المركزية والمحلية غالبيتها ويبلغ عددها أكثر من أربعة آلاف وتدير مصالح تراوح بين إنتاج النفط والغاز وإدارة فنادق ومطاعم، تعاني تراجع إنتاجيتها بسبب انتشار الفساد والمحسوبية، ما دفع قيادة «الحزب الشيوعي» الحاكم إلى محاولة خصخصة قطاعات واسعة من هذه الشركات الحكومية وإصلاح أجزاء أخرى. وفي هذه الأثناء، دأب بعض الخبراء الأميركيين على محاولة إثبات أن النهوض الاقتصادي الصيني على مدى العقود الأربعة الماضية، وعلى عكس الاعتقاد السائد، لم يكن بسبب الشركات الحكومية، بل بفضل الشركات الخاصة. وفي كتاب صدر هذا الأسبوع بعنوان «الأسواق أفضل من ماو»، يعتبر الاقتصادي نيكولاس لاردي أن النهوض الاقتصادي الصيني منذ سبعينات القرن الماضي لم يكن بفضل السياسات الحكومية، بل بفضل اقتصاد السوق، مؤكداً أن الشركات الصينية الخاصة أطاحت بنظيرتها الحكومية في قطاعات واسعة، وتحولت إلى المصدر الرئيس للنمو والوحيد للوظائف. ويناقض لاردي الاعتقاد السائد بأن الشركات الحكومية استعادت عافيتها منذ العام 2008، بسبب ضخ الحكومة الصينية للأموال. ويقول «منذ ذلك العام، شهدت الشركات الخاصة نمواً مضاعفاً مقارنة بنظيراتها الحكومية، والصورة العامة أن المصارف الحكومية تقرض الشركات الحكومية كميات ضخمة خاطئة». وأضاف أن دراسته «تشرح أن المصارف خلال السنوات الأخيرة أقرضت الشركات الصينية الخاصة ضعفي ما أقرضته للحكومية». ويشير إلى أن «عدد الوظائف الحكومية لكل ألف من السكان في الصين هو ثلث النسبة في فرنسا، وأقل من نصف الولاياتالمتحدة، ومتقارب مع نسب الوظائف العامة في المكسيك وتركيا وجنوب إفريقيا». وعلى رغم أن القطاع الخاص يقف وراء نمو الزراعة والصناعة، مازالت الشركات الحكومية الصينية تحتكر إنتاج النفط والغاز، فضلاً عن قطاعات أخرى مثل المال والاتصالات والخدمات. ولكن الخبير الأميركي يعتقد أن القيادة الصينية الحالية عاكفة على إعطاء السوق الدور المطلوب لكسر الاحتكارات الحكومية وقيادة الاقتصاد. وقدم الخبير الاقتصادي في «معهد بيترسون» نيكولاس فيرن رسماً بيانياً يظهر ارتفاع قيمة الشركات الخاصة الصينية وبلوغها معدلات نظيرتها في هونغ كونغ وماكاو. وأضاف: «بعدما حققت شركة علي بابا للتجارة الالكترونية رقماً قياسياً خلال طرح أسهمها أرسى قيمتها على 155 بليون دولار، ما يجعلها الأكبر في الصين، تراجعت قيمة الشركات الحكومية إلى أكثر من 60 في المئة من الإجمالي للمرة الأولى منذ العام 2005». ويظهر الرسم أن قيمة الشركات الصينية الخاصة المسجلة في الصين بلغ رقماً قياسياً يقارب ال20 في المئة من إجمالي قيمة الشركات الصينية. وبذلك، تظهر الدراسات الأميركية أن سر نهوض الاقتصاد الصيني هو القطاع الخاص، الذي ما لبثت قيمته تزداد في السنوات الماضية، ما بدا جلياً في طرح أسهم «علي بابا»، في وقت تبلغ قيمة شركة «تن سنت»، وهي النسخة الصينية ل»فايسبوك»، نحو 150 بليون دولار، ما يجعلها الثانية صينياً. ولا شك في أن هذه النجاحات الصينية دفعت بعض الحكومات المحلية إلى تخصيص شركاتها، أو أجزاء منها. وكانت مجلة «ايكونوميست» البريطانية نقلت عن مصادر لم تسمها أن حكومة غواندونغ طرحت للعامة أسهماً في 50 شركة تملكها، في حين خصصت حكومة شانغهاي 12 في المئة من إحدى شركاتها الكبرى. وفي حال تراجعت يد الحكومة الصينية في السوق، واختفت كلياً في وقت لاحق، تكون الصين اقتربت أكثر من الرأسمالية الليبرالية، وتكون «المعجزة الصينية» عبارة عن تبني للنظام الغربي الرأسمالي بالكامل.