حين فرغ وونغ هشياوزو، أستاذ مادة الاقتصاد المالي في جامعة فودان (شنغهاي)، من إلقاء محاضرته على طلاب السنة الأخيرة في مدرسة التجارة العليا بباريس، سأله أحد الطلاب عما في وسع فرنسا اقتباسه من الأنموذج أو المثال الصيني. ويعقب الأستاذ وونغ بالقول: «كان هذا بعيداً من التصور والتوقع قبل 2008، عام انفجار الأزمة المالية والمصرفية. وما يرويه الأستاذ الصيني لا يبعث الغربيين على الإنكار والدهشة فحسب، بل يبعث الصينيين أنفسهم على بعض السخرية. فالمثال الصيني المفترض يتعرض من الداخل إلى نقد حاد. وموضوع النقد الأول هو دور الدولة الراجح والأوحد في بعض الأحوال. فالدولة الصينية تخص نفسها، أي إدارتها الاقتصادية وهيئاتها، بالتوسط في أعمال الشركات وعلاقاتها وصفقاتها، وفي المصارف واستثماراتها وتسليفاتها، وفي إقرار المناقصات والمقايضات، فلا تُبقي للشركات المتواضعة الخاصة، ولأصحاب حسابات الادخار الصغيرة، أي للشعب وعامة الصينيين، غير النزر القليل. وتصدى رئيس الوزراء نفسه وين جياباو، مطلع نيسان (أبريل)، إلى أحد أركان رأسمالية الدولة:» مصارفنا تجني أرباحاً على أهون سبيل، لماذا؟ لأن عدداً قليلاً من المصارف الضخمة يتمتع بموقع احتكاري، وفي هذه الحال على المقترضين الباحثين عن رأس مال للاستثمار أن يقترضوا منها حكماً». ويخلص رئيس الوزراء من التقرير إلى الرأي والحكم: «علينا كسر الاحتكار». وهذه المسألة شاعت وراج تناولها في الخطب والتقارير والمقالات منذ انهيار تعاونيات التسليف غير الرسمية بوينجو، في الخريف المنصرم، وكان أصحاب العمل في المدينةالشرقية الناشطة اضطروا إلى الاقتراض بأسعار فائدة عالية من دوائر مالية خاصة، بعد أن سدت المصارف الكبيرة باب التسليف في وجوههم وقدمت عليهم الشركات التي تتمتع بضمانة الدولة. وعجز بعض المقترضين عن تسديد قروضهم فهربوا إلى أنحاء قصية من البلاد أو إلى الخارج، ورمى أحدهم بنفسه من نافذة طبقة عالية. وأثارت القضية لغطاً، لأن وينجو، المدينة التجارية البارزة، عَلَم على حيوية أصحاب العمل والشركات الخاصة، وميدان تتنافس فيه الرساميل الخاصة والمبادرات الفردية. ومن علامات زمن الإصلاحات إعلان الحكومة، في 28 آذار (مارس) المنصرم، أن في مستطاع مقرضي وينجو فتح اعتمادات تسليف للشركات الصغيرة والمتوسطة. وقد لا يعم القرار مدناً ومناطق أخرى تحظى فيها مصارف الدولة بمكانة ممتازة، ولا ينافسها منافس جدي. فالقاعدة العامة والشائعة تختصر الحال بالعبارة السائرة: «القطاع العام يفوز والقطاع الخاص يتردى». ويتولى جهاز التنظيم في الحزب الشيوعي تعيين المسؤولين على رأس الشركات الكبيرة. ولا يستثني الإجراء الإداري والتنظيمي الحزبي قطاعاً واحداً، ويشمل الاتصالات والتعدين وما بين هذين القطاعين، على حد سواء. والمسؤولون كلهم حزبيون أعضاء في الحزب الشيوعي الصيني، تصلهم بمراتب القيادة الحزبية خطوط هاتف حمر سرية وصفها ريتشارد ماكغريغور في روايته «ذا بارتي» (الحزب). وجهاز الهاتف هذا جزء من شبكة اتصال داخلية تعمل بواسطة 4 أرقام، وهو أضحى رمزاً لدائرة نخبة ضيقة تعود إليها الكلمة الفصل في الاقتصاد والسياسة معاً. وخلال ثلاثة عقود، خلّي الحزب الشيوعي بين مواطنيه وبين إنشاء شركاتهم وأعمالهم من غير قيد، واحتفظ لنفسه وأطره بقلب المفاعل أو المحرك. والحق أن المصارف والشركات الكبيرة أدخلت البورصة، وحملت على البحث عن مصادر تمويل في سوق أسهم، وألزمت تحسين حوكمتها من طريق السوق. إلا أن الدولة احتفظت بالحصة المرجحة من الملكية في القطاعات الموصوفة ب «الاستراتيجية». والصفة مرنة، والحزب الحاكم يطلقها على الهاتف النقال (الخليوي) والنقل الجوي في آن. فالمسافر جواً إذا اختار «إيرشاينا» أو «شاينا إيسترن» أو «شاينا ساوثيرن» لا يفتأ يسدد ثمن الخدمة إلى القطاع العام وشركاته. ولكل شركة منها خليتها الحزبية. وهو شأن صاحب الهاتف النقال، اشترك في «شاينا موبايل» أم في «شاينا يونيكوم». ويرى تشو تشياونيان، أستاذ الاقتصاد في مدرسة الأعمال الصينية- الأوروبية بشنغهاي، أن رأسمالية الدولة غير مجزية لأن رجال الأعمال لا يتنافسون في إطارها على توسيع الثروة بل يلتزمون تطبيق سياسة مرسومة. ولا تقتصر القيود على تطبيق سياسة الحزب الشيوعي وتقديمها على مصلحة المستهلك. فالمسألة الأخرى العالقة هي عوائد الشركات والاستثمارات. وتتمتع الشركات بموقع احتكاري رسمي، أو بضمانات تسليفية ورعاية مصرفية قوية. في المقابل، لا تتعدى الأرباح التي تسددها للدولة 10 في المئة من أرباحها جملةً. وعلى هذا، لا تتحفظ المصارف عن تلبية طلبات التسليف بالغاً ما بلغت من الإفراط، فالدولة لا تتحفظ عن التسديد. والتضييق لا يتجاوز غالباً إما إرجاء التلبية بعض الوقت، وإما الامتناع عن تجديدها. وهذا يسير على المصارف: «فالمصرف المركزي ليس مستقلاً، وهو يحدد نسبة فائدة ضعيفة. وليس في وسع صاحب حساب الادخار الصغير إلا الرضوخ لتناقص قيمة مدخراته. فالتضخم لم يقل عن 4 في المئة عام 2012، والفائدة على الودائع لم تتخطَ 3.5 في المئة. وفي المحصلة، لا يرعى النظام الاقتصادي طلب المستهلكين الصينيين ولا يسانده. ولعل الخلل الأول الذي تؤدي إليه رأسمالية الدولة هو تراكم الثروة في أيدي نخبة سياسية قيادية، أو وثيقة الصلة بالقيادة السياسية الحزبية، والحؤول دون توزيع واسع لعوائد النمو وثمراته، بحسب هويانغ ياشينغ، أستاذ إدارة الأعمال في «تشاينا لاب» (مختبر الصين) ب «ماساشوستس انستيتيوت أوف تكنولوجي». فالصين هي أحد أكثر بلدان العالم تفاوتاً في المداخيل. ورأسمالية الدولة هي سبب مباشر في هذه الحال، على قول هو يانغ. يقود هذا إلى السؤال الحاسم: هل الدولة القوية ونظامها المقفل هما العامل في تقدم الصين طوال العقود الثلاثة الماضية أم أنهما كابح النمو المتاح؟ ومال الجواب، خلال معالجة الأزمة، إلى الشق الأول من الرأي. فالدولة – الحزب أعملت خطة استثمارات هائلة في البنى التحتية، وساندت نمواً قوياً بينما كان سائر العالم يغرق في الكساد. لكن المشكلة هي، كما يلاحظ باي مينكسين، من دائرة الدراسات الصينية في كلايرمونت كوليدج بكاليفورنيا، أن القرارات تستجيب ما يراه فريق ضيق من القادة، وليس رغدَ سواد الجمهور. وللحزب هواجسه التي تلح عليه وهو يهجس أولاً وقبل أي أمر آخر بالاستقرار. ويتمتع مثال رأسمالية الدولة – الحزب بفضيلة لا تنكر، فهو يضطلع بإنجازات كبيرة وملموسة بصرف النظر عن أكلافها الباهظة. ومن الدلائل على الأمر توسيع شبكة قطارات سريعة، وبناء شبكة طرق عريضة. وتشغّل الشبكتان العمال المهاجرين من الأرياف النائية على رغم التباطؤ الاقتصادي العام. ووهبنا الصين بنى تحتية تفوق مثيلاتها في البلدان النامية الأخرى كلها. لكن الجدوى الحقيقية تقتضي الإنتاج بموارد محدودة، كما يردد باي مينكسين. ورأسمالية الدولة الصينية لا تجترح جديداً ولا تبتكر أمراً غير مسبوق. والمسائل التي تثيرها إنجازات الصين اليوم هي ذاتها المسائل التي أثارها بفرنسا إنشاء التسليف العقاري عام 1852، كما يلاحظ مايكل بيتيس، الأستاذ في جامعة بكين وعضو مؤسسة «كارنيغي». فالأنموذج الصيني يقوده معيار واحد هو الاستثمار في عهدة الدولة. والدولة تقر وحدها الفوائد ونسبتها، والأخطار المترتبة على الإقراض تقع على عاتق الجماعة الوطنية. وفي المراحل الأولى من النمو لا خلاف على الخطط أو تعيين المشروعات الاقتصادية المجدية. وهي تستدرج نمواً سريعاً ومتصلاً. في المراحل التالية، تبرز مشكلات عسيرة ومعقدة ناجمة عن سياسة توزيع الاستثمارات والرساميل، وتُتوجها في آخر المطاف أزمة مديونية. وهذا لا مناص منه حين يصيب الأسعار ودلالاتها السوقية المفتوحة، اعوجاج مصدره الحوافز السياسية الخارجة عن دائرة الإنتاج والسوق. وترعى الحوافز السياسية المثال الاقتصادي العام ودوامه بعد نفاد صلاحيته. ويرى بيتّيس أن معظم أصحاب القرار الصينيين يدركون الأمر من دون لبس، إلا أن التخلي عن مثال النظام الاقتصادي السائد والفائت تحول دونه موازين سياسية دقيقة. ويوحي توجيه رئيس الوزراء إلى تحرير الفوائد، بإجراءات وشيكة تحسم التخلي عن المثال الفائت. وما يقوله المسؤولان الإصلاحيان هو أن على الدولة الحزبية تقليص دورها وإسرافها إذا شاءت الحفاظ على بعض المشروعية الشعبية التي تدين بها إلى إدارة الاقتصاد إدارة مجدية. وأيد رئيس الوزراء المتوقع على وجه التأكيد، لي كيكيانغ، تقريراً سميكاً صدر عن البنك الدولي، في 27 شباط (فبراير) 2012، وفيه حض البنك الصين على تنويع أنماط ملكية شركات القطاع العام تدريجاً. ويلاحظ أن الهوة بين الإصلاحيين والمحافظين عميقة وواسعة. فهؤلاء لا يشكون في أن تقليص الحزب الشيوعي دوره في قيادة الدولة والمجتمع، يؤدي إلى تشويه هذا الدور، وخسارة سلطته ونفوذه. ويرى الإصلاحيون أن تردد الدولة في بيع شطر من أسهمها في رأس مال المصارف، وإرجاءها هذا الإجراء إلى يوم مؤجَّل، قرينة على أن وين جياباو هو «أكبر ممثل في الصين». * مراسل بشنغهاي، عن ملحق «ايكو إيه انتربريز» في «لوموند» الفرنسية، 2/5/2012، إعداد منال نحاس