يبدو غريباً مع احتدام الأوضاع في أرض الكنانة أن يكون استخدام الفضائيات من الدعاة المتشددين الذين يخوضون معاركهم الخلفية في مجال عمومي أكبر وأشد تأثيراً من تلك المرحلة التي شهدنا فيها تأسيس وانطلاق هذه الفضائيات على يد من يفترض أنهم يقفون على الضفة الأخرى. لم يكن صعباً تبين ذلك على قنوات كثيرة، وبخاصة في ظل التداعيات الأخيرة التي شهدتها مصر. صحيح أن الفوضى الفضائية أرخت بظلالها. ثمة فضائيات عربية لكل شيء. قنوات للترفيه والغناء والأخبار والمصارعة الحرة، يستخدم فيها معلقون كلمات مبطنة تحوي ايحاءات لا تخفى على متابع، وهي تستقطب عدداً متزايداً من المراهقين والعاطلين من العمل. بعض هذه القنوات لا يبتعد عن أفعال الشعوذة وتهديد مستقبل السلم الأهلي، ويملكها دعاة متشددون يجدون مواد سهلة للبث تتحول بسرعة كبيرة إلى أفخاخ وسموم لا يمكن القفز عنها، وإن بدا أن الحد منها يزداد صعوبة مع هذه الفوضى التي تعدّ سابقة. بعضهم يقول إنه لا يجدر من باب ممارسة الديموقراطية، واعلاء شأن الرأي الآخر التحريض على أصحاب هذه الفضائيات، ويطالب هؤلاء، بإعطائهم الوقت الكافي لإبداء حسن النية في بث برامجهم وأفكارهم تجاه شرائح المجتمع التي يتوجهون إليها كما يحصل مع كل الجماعات السياسية والدينية في بقاع كثيرة من العالم. قد يبدو هذا صحيحاً اذ لم يعد ممكناً اطلاقاً الترويج لفكرة أحادية الفضاء، واحتكار الآراء مهما غالى هذا التحريض في طرح مكوناته على الملأ. رحابة هذا الفضاء الافتراضية تمنع ذلك، وهذا أمر مؤكد لم يعد بحاجة الى براهين واصطفافات، وما على أفرقاء البث الفضائي إلا شحذ الهمم والأفكار والبرامج بغية التشديد على هذه الفرضية، لا العمل على تفريغها من محتواها، كما يحدث مع بعض الفضائيات التي لا يملكها دعاة متشددون، ويسهر عليها اعلاميون معروفون ومرموقون حوّلوا بين ليلة وضحاها برامجهم إلى «توك شو» ساخنة يستضيفون فيها «دكاترة» الفكر المتشدد ليحصلوا على أعلى نسب مشاهدة، وكأن الإثارة، كل الاثارة لم تعد تنبع إلا من هنا. برامج كثيرة لا تتوقف عن افساح المجال لهؤلاء. الحوار عادة يتعمد جر الخصم إلى ساحة المبالغة في تقويم الأوضاع، والخروج عن النسق العام. ليس برنامج الاعلامي محمود سعد «آخر النهار» في بعض حلقاته إلا نموذجاً لهذا النوع من البرامج التي تلهث وراء الإثارة مع بعض أصحاب هذا الفكر. قد يبدو هذا استباقاً لما يمكن أن يحصل. لكن النتائج مهما قيل في توصيفها لا تبدو مشجعة. «آخر النهار»، ليس كبرنامج وانما كمجاز لم يعد مجرد برنامج حواري. إنه مهجع الجمهور العربي الذي يعود من احباطاته اليومية في التعليم والعمل والطبابة والتنمية واعداد المرأة والثقافة ليخلص إلى فكر «افتراضي» عن العدالة الاجتماعية، والتوافق المجتمعي، ومشروعية ترميم برامج ثقافة مهزومة.