لأنه يسكن في حي «الهرم»، وعمله في «مصر الجديدة»، فهو يمر على «جامعة القاهرة» و «التحرير» ليصل إلى غايته. هذه الرحلة كانت تستغرق ساعة ونصف بتوقيت النظام القديم، وساعتين بالتوقيت الثوري والمرحلة الانتقالية، وثلاث ساعات بتوقيت مشروع النهضة وبرنامج المئة يوم. عم أحمد موظف الأمن البسيط الذي يكتب بالكاد اسمه ويقرأ بالكاد عناوين الجرائد، ويوجه جل حواسه للمذياع، ويسخّر كل وقته ليلاً لبرامج ال «توك شو»، لا يكل ولا يمل عن الإدلاء بدلوه في شؤون السياسة وأحوال الوطن. يوم أمس، وصل إلى عمله قادماً عبر طريق «رأس الرجاء الصالح»، على حد قوله. «مررت بكل ما يمكن المرور به من تظاهرات! بتوع ربنا وشرع الله في الجيزة، وبتوع البرادعي والحرية في التحرير، وبتوع مصر في الأوتوبيس والميكروباص يلعنون أولئك وهؤلاء». ومن أجل احتشاد هؤلاء الذين نزلوا يوم أمس لتأييد قرارات الرئيس محمد مرسي والهتاف دعماً وتشجيعاً للدستور المسلوق، غيّر الميكروباص الذي كان يستقله «عم أحمد» مساره تجنباً للازدحام. ترجّل الرجل ليعبر مربع جامعة القاهرة سيراً على الأقدام اختصاراً للوقت. وبدلاً من الازدحام الذي عادة يشاهده على أبواب حدائق الحيوان في مثل هذا الوقت من الصباح، فوجئ بأبواب الحديقة مغلقة، وعرف من أحد الباعة الجوالين أن «أسعد سكان الجيزة اليوم هم حيوانات حديقتها التي صدر قرار بإغلاقها تحسباً لأحداث مليونية الشرعية والشريعة (أمس)». ضرب عم أحمد كفاً بكف، وقال متفكهاً: «هنيئاً للحيوانات بإجازتهم. على الأقل يرتاحون من سخافات البشر»! وجد نفسه جزءاً من مسيرة ترجّلت لتوها من عشرات الباصات. نزل أعضاؤها يهتفون بحياة الرئيس وعزّة الشريعة ومحبة الإسلام. أعطاه أحدهم صورة ضخمة للدكتور محمد مرسي تدعو إلى انتخابه رئيساً لمصر، وعلماً لدولة فلسطين، وآخر لجماعة الإخوان ليلوّح بها. لوّح عم أحمد بالأعلام حتى خرج من المسيرة، واحتفظ بغنيمته ليلعب بها الأولاد في البيت. وبعد نجاحه في اللحاق بباص نقل عام كان متوجهاً صوب التحرير، أبت «سخافات البشر» أن تترك «عم أحمد» يكمل رحلته بسلام. فالباص الذي استقله ليعبر به تجاه «التحرير» كان مشتعلاً بسجال سياسي دستوري - إخواني - سلفي - ليبرالي. الصالون الفكري المتهالك المترجرج من هول الحفر الشارعية والمقاعد المخلوعة والسائق المصاب بما يشبه اللوثة العقلية أصابه بصداع هائل. الركاب الذين عكسوا نبض الشارع اشتبكوا في حوارات ساخنة بين مؤيد ورافض لقرارات الرئيس، ودستور «آخر الليل». صحيح أن أحداً منهم لم يتطرق إلى بنود القرارات أو نصوص الدستور، لكن العبارات التي ترددت عشرات المرات كانت «مرسي راجل طيب وبتاع ربنا» و «كلمة ربنا لازم تنفذ» و «الإخوان خربوا البلد» و «لو السلفيين وصلوا الحكم سنموت كلنا» وفي سياق آخر «سنحيا كراماً كلنا». «لا دستور ولا قرارات، قاربنا على الموت جوعاً»، قال «عم أحمد» كلمته وترجّل من الصالون الفكري الذي اضطر إلى تغيير مساره على مشارف ميدان «التحرير» الناضح بليبراليته والمشع برفضه والفوّاح برائحة الفول المدمس عند عربة «فول وفلافل الثورة» حيث وقف لتناول إفطار سريع. وقبل أن يهرع ليلحق بباص ينقله صوب شرق القاهرة، أعطاه أحدهم منشوراً لحزب الدستور، وآخر لحزب الكرامة، وثالثاً للاشتراكيين الثوريين، وعلماً لمصر. لوّح «عم أحمد» بالعلم للميكروباص الخارج لتوه من ميدان عبدالمنعم رياض. وما إن ركب حتى فوجئ بصالون فكري آخر أجهضه السائق هذه المرة بأغنيات مسفّة وأخرى مخلّة، ولم ينقذه منها سوى وصول الميكروباص «الإباحي» إلى مسجد الفتح حيث فوجئ بمسيرة سلفية تهتفت «إسلامية إسلامية» دفعت السائق إلى إخراس أغنياته والتلويح للمسيرة بعلامة النصر، صائحاً بعلو صوته: «والنعمة عايزين شرع الله وإرادته تطبق»! لكن إرادة الله قد تكون هي من شاء أن يجد الميكروباص نفسه عاجزاً عن دخول «مصر الجديدة» بعد إغلاق العديد من الشوارع المحيطة ب «قصر الاتحادية». وحين طلب منه ضابط المرور تغيير مساره، رد السائق صائحاً: «والنعمة مرسي ده عسل»! ترجّل «عم أحمد» مجدداً واستكمل مسيرته نحو مقر عمله مشياً. وصل متأخراً عن موعده بما يزيد على الساعة، وحين سئل عن السبب قال بحكمة بالغة: «البلد واقفة». وحين طلب منه تحديد مواقع الوقوف، قال: «الجيزة، والتحرير، ورمسيس، ومصر الجديدة». لكن التعليق التالي أفقده هدوء أعصابه واتزان مشاعره. «كلها أيام ويتم إصدار الدستور، ويتم تفعيل قرارات الرئيس، وتتفرغ الحكومة لأداء مهماتها». انفجر طوفان «عم أحمد» غضباً: «الدستور لن يطعمني، وقرارات الرئيس لا أحد يفهمها. ومتظاهرو الجيزة لا يفهمون سبب نزولهم، ومتظاهرو التحرير يتكلمون كلاماً غير عجيب، والحكومة لا وجود لها في حياتنا. افهمومها بقى».