يأخذ مؤيدو الثورة السورية على جماعة الممانعة تعاطفهم مع غزة مقابل امتناعهم عن التعاطف مع عذابات السوريين. أما الممانعون فلا يحبون أن تُنغّص عليهم سورية حزنهم على فلسطين وتضامنهم معها. لكن الكل يتفق على التضامن مع غزة ومحاربيها. فلا يجد مؤيدو الثورة السورية حرجاً في تأييد حماس بعد ابتعاد تلك عن نظام الأسد وانحيازها إلى المحور الداعم الثورة. في المقابل ينتعش قوم الممانعة بشكر قادة حماس والجهاد إيران على دعمها العسكري، بينما يرتبك مؤيدو الثورة بهذا الشكر لدولة تغمس يدها في الدم السوري. يسقط الممانعون أخلاقياً في سورية قبل غزة وبعدها. ويسقط (كما هو متوقع) معظم مناصري الثورة في فخ الممانعة الأول: قضية فلسطين. واقعياً وأخلاقياً لا يجمع بين ما جرى في غزة وما يجري في سورية سوى أنهما مواجهتان غير متكافئتين بين آلة عسكرية عنصرية - فئوية غاشمة وخصم يحارب بالقليل المتوافر من القوة. كل ما عدا ذلك مختلف. للثورة السورية هدف واضح وقابل للتحقيق وهو إسقاط نظام الأسد. لا شك في أن السوريين يدفعون ثمناً غالياً لذلك. وهذا ما يزيدهم بطولة، ليس فقط لأنه ثمن قاسٍ يُدفع من أجل تحرير سورية من نظام مافيوي يتحكم بالبلد ويستعبد أهله، بل لأنه ثمن لا يدفع هباء. لم تكن كل هذه الأكلاف في الأرواح والأملاك مبررة لو كان تحرير سورية ممكناً من دونها، أو لو كان تحريرها مستحيلاً حتى معها. لكن الأمور ليست كذلك. فلا النظام الأسدي قابل للإصلاح أو التغيير من دون هزيمة عسكرية بكل ما يحمله ذلك من أعباء وأثمان، ولا هو محصن ضد هكذا هزيمة بدأت تظهر ملامحها في الأفق، هزيمة لا تجعل تضحيات السوريين فعلاً عبثياً يجلب الموت و الدمار فحسب. كل ذلك لا ينطبق على مقاومة غزة الصاروخية. فالهدف من استعمال أو حتى امتلاك هذه الصواريخ غير واضح. إذا كان الهدف تحرير فلسطين والقضاء على دولة إسرائيل، لا بد أن في الأمر مزحة، ليس بسبب التفاوت الهائل في القدرات العسكرية، بل لأن القضاء بالقوة على أي دولة تتمتع بشرعية أممية كالتي تتمتع بها إسرائيل (على الأقل في حدود ما قبل ال67) أمر أشبه بالمستحيل. وإذا كان من الممكن أن تتغير حدود الدول عبر حركات انفصالية، فهذا يعني، في حالة إسرائيل، استقلال الضفة والقطاع عنها، ليس أكثر. ربما كان هدف الصواريخ ليس أكثر من إنهاء الحصار الذي تفرضه إسرائيل على غزة، لكن هذا يستدعي سؤالاً حول هدفها من الحصار. إذا كان هدف الحصار هو القضاء على قدرات حماس والجهاد الصاروخية، فرفع الحصار يتحقق بكلفة بشرية ومادية أقل عبر التخلي عن هذه الصواريخ. أما إذا كان الهدف من الصواريخ تحسين شروط التفاوض من أجل إقامة دولة فلسطين على أراضي ال67، فمن غير الواضح كيف تم حتى الآن استثمار الصواريخ في المفاوضات، خصوصاً في غياب أي تنسيق (بل في ظل حالة عداء) بين من يفاوض ومن يطلق الصواريخ. طبعاً، هناك دائماً الحجة القائلة إن المفاوضات لم تجلب شيئاً للفلسطينيين وإن إسرائيل لا تفهم ولا تُعطي إلا بالقوة بالتالي هناك دور للصواريخ. لكن، وبصرف النظر عن صحة هذه الإشاعة، لا يبدو أن الصواريخ (أو العمليات الانتحارية قبلها) نجحت في تحقيق أي مطلب للفلسطينيين عدا إرضاء رغبة مكلفة بالانتقام. ربما لم تجلب المفاوضات شيئاً للفلسطينيين، لكن القوة لم تأتِ بشيء أفضل. في أحسن الأحوال لم يكن ما جلبته المقاومة المسلحة في غزة أفضل مما جلبته المفاوضات في الضفة. إذا كانت القوة غير قادرة على تحقيق إنجازات أفضل من تلك التي تحققها المفاوضات، تكون المفاضلة لمصلحة الأخيرة التي تظل الأقل كلفة. في شكل عام، إذا تساوت الوسائل في تحقيق (أو عدم تحقيق) هدف ما، يُفضل اللجوء إلى الوسيلة الأقل كلفة أرواحاً وأملاكاً. والعجيب في الأمر أن ينقلب هذا المنطق في النظرة السائدة إلى المواجهة بين الفلسطينيين وإسرائيل. هنا، تُعفى الأساليب الأكثر كلفةً من المساءلة حتى عندما يثبت عدم جدواها، والعمليات الانتحارية خير مثال على ذلك. فكما هو معروف، اعتمدت حماس والجهاد ومجموعات أخرى وسيلة العمليات الانتحارية على مدى أكثر من عقد. وآذت هذه العمليات الإسرائيليين وقضّت مضاجعهم وأربكت حياتهم أكثر من أي شيء عرفوه في تاريخ دولتهم. أصابت هذه العمليات الإسرائيليين في قلب مدنهم من دون إنذارات وبقسوة لم يعهدوها. قتلت العمليات الانتحارية أكثر من 750 إسرائيلياً في الفترة الممتدة بين 1994 و2005، في حين لم تقتل الصواريخ الفلسطينيية أكثر من 64 إسرائيلياً منذ 2001 حتى وقتنا هذا. على رغم كل ذلك لم ترغم العمليات الانتحارية الإسرائيليين على تقديم التنازلات، بل على العكس، زادتهم تعنتاً. بنوا الجدار ونالوا من قادة حماس والجهاد بعد كل عملية انتحارية. ونجحوا في شكل أساسي وعبر القوة فقط في القضاء على تلك العمليات. لم يفهم الإسرائيليون بالقوة كما اعتدنا أن نسمع. بل من فهم بالقوة هو الجانب الفلسطيني، وإلا فليشرح لنا أحدهم لماذا توقفت هذه العمليات، وما هو التنازل الذي قدمه الإسرائيليون ليوقف الانتحاريون عملياتهم. مع الأسف، إذا كان هناك درس تعلمه الإسرائيليون من تجربة العمليات الانتحارية فهو أن مَن لا يفهم إلا بالقوة هم الفلسطينيون. يتعامل الممانعون وكثيرون غيرهم، ممن تُخدر عقولهم مسلّمات بائسة عن المواجهة مع إسرائيل، وكأن القوة تبرر نفسها من دون الحاجة إلى تحقيق إنجازات. لا شك في أن من الخطأ الاعتقاد بأن اللجوء إلى القوة غير مبرر على الإطلاق. فالقوة قد تكون مجديةً ومبررةً أحياناً كما يبدو الحال مع الثورة السورية. أما أن تُقدس القوة وتُنزه عن الهزائم فذاك ليس سوى تعبير عن باثولوجيا سياسية واجتماعية في آن.