في 7 تشرين الثاني (نوفمبر)، توجّه آفو كابريليان وصديقاه غابي كبة وماريو جروه إلى حديقة المشتل الزراعي وسط حلب. كانوا يحملون بعض المساعدات الأساسية إلى عدد كبير من اللاجئين الذين اتخذوا من الحديقة منزلاً لهم، هرباً من القصف العنيف على المدينة. وكان آفو يصوّر، بواسطة الكاميرا التي حملها بيده، الأزمة الإنسانية التي ضربت مسقط رأسه. اقترب عناصر من فرع الأمن السياسي من الرجال الثلاثة، بعد أن ارتابوا من وجودهم في هذا المكان. وبعد تفتيشهم، عثروا في حوزتهم على كاميرا تحتوي على مشاهد لا تقتصر على أشخاص مهجّرين، بل وتشمل أيضاً تظاهرات في حلب. أُلقي القبض فوراً على الرجال الثلاثة، وتمّ اصطحابهم إلى أحد السجون في حلب. وحاول وجهاء الطائفة الأرمنية لقاء مسؤولين رفيعي المستوى في فرع الأمن السياسي، لكنّهم سرعان ما أُعيدوا إلى المكان الذي أتوا منه فارغي الأيدي. وقال لي صديق فضّل عدم ذكر اسمه خوفاً على مصير آفو: «قد يتهمون آفو الآن بأنّه العرعور». آفو كابريليان (27 عاماً) هو مخرج سينمائي ومسرحي معروف بنشاطه الثقافي والاجتماعي في حلب وفي مدن أخرى. بعد أن تخرّج في جامعة دمشق ونال شهادة في الإخراج المسرحي والسينمائي، عاد إلى مدينته، حيث نشط في صناعة الأفلام والمسرحيات، وفي نوادي السينما والنقاشات. لم يشارك آفو كابريليان وأصدقاؤه في أي عمل تخريبي، إلا أنهم كانوا يهتمون لأمر مدينتهم ولمصير سكانها. وفي أوقات الأزمة، حاول كلّ منهم مواجهة الصعوبات على طريقته، من خلال تقديم مساعدات إنسانية إلى العائلات المعوزة، فيما أقدم آفو على أمر عرف أنّه أفضل ما يمكنه فعله، إذ عمل على توثيق الأحداث المأسوية من خلال عدسة الكاميرا التي يحملها. المعضلة السورية الأرمنية ينتمي آفو كابريليان إلى الأرمن السوريين البالغ عددهم مئة ألف، الذين يشكلون إحدى قطع الفسيسفاء المتعدّدة التي تكوّن المجتمع السوري. ومع اندلاع الثورة السورية، حاول هذا المجتمع إيجاد مقام يحميه من غضب السلطات من جهة، ومن نيران الثورة من جهة أخرى. وأعلن قادة المجتمع الأرمني، الذين تجمّعوا حول الكنيسة الرسولية الأرمنية، أنهم يقفون على الحياد في النزاع القائم. واندلع نقاش على مواقع التواصل الاجتماعي بين الأرمن السوريين والمجتمعات الأرمنية في الخارج حول معنى هذه الحيادية وكيفية التصرّف بغية القول لسائر المجتمع السوري إنّ «الحيادية» لا تعني «اللامبالاة»، وحول الطريقة الفضلى لحماية هذا المجتمع من الصراع العنيف. وفي إطار نقاشات مماثلة، يتذكر الأرمن، سواء كانوا في سورية أو خارجها، جيّداً الدور الذي أدّته حلب في الحرب العالمية الأولى، حين تمّ نقل جماعيّ للمدنيين الأرمن في الإمبراطورية العثمانية إلى الصحراء السورية. وقد اجتمع الأيتام والناجون في حلب بادئ ذي بدء للانطلاق في حياة جديدة، وهو السبب الذي يدعو الجالية الأرمنية للتعلّق إلى هذا الحدّ بهذه المدينة. وفي إطار هذا النقاش، غالباً ما يُعطى مثال تجربة المجتمع الأرمني-اللبناني. فعندما اندلعت الحرب اللبنانية (1975 -1990)، قرّرت الأحزاب الأرمنية الثلاثة التقليدية (الطاشناق والهنشاق والرامغافار) اتخاذ موقف مشترك كمجتمع، وأعلنت وقوفها على الحياد... على رغم أنّ بعض الأفراد الأرمن شاركوا إلى جانب طرفي النزاع، وكانوا في معظمهم أعضاء في حركة فتح أو الحزب الشيوعي اللبناني، فيما كان البعض الآخر عضواً في حزب الكتائب. ومع ذلك، اعتبر سائر المجتمع اللبناني أن المجتمع الأرمني يقف على الحياد. وكان يسهل اجتياز نقاط التفتيش التي أقامتها الميليشيات اللبنانية خلال الحرب، في حال كان اسم العائلة ينتهي ب «يان». لكن اختلافات أساسية تكمن بين الأرمن اللبنانيين في الماضي وبين وضع الأرمن السوريين. في السبعينات من القرن العشرين، كان المجتمع الأرمني اللبناني نامياً وثرياً، لديه مؤسسات ثقافية وتربوية قوية، وروابط ثقافية قوية مع سائر المجتمع اللبناني وسائر العالم. وليس هذا واقع الحال في سورية، حيث تمّ إضعاف المجتمع بسبب هجرة معظم شبابه الفاعل إلى الخارج. والأهم هو أنّ لبنان قبل الحرب كان يتيح حرية الانتماء السياسي والاجتماعي، ما دفع بالأرمن إلى الاختلاط في محيطهم، وإرساء علاقات معه والتعارف بين بعضهم بعضاً. وفي المرحلة السابقة للثورة في سورية، كان يُمنَع على المجتمع الأرمني – وعلى سائر المجتمع أيضاً - ممارسة أي نشاطات سياسية، وحتّى ثقافية، مستقلة، خارج الحدود الضيقة المفروضة عليهم. وبنتيجة ذلك، يعيش هذا المجتمع في جوّ من العزلة المتزايدة. وحين سألتُ أحد قادة المجتمع الأرمني عن طبيعة العلاقات السياسة التي أقاموها، أجابني بأنهم كانوا يعرفون السلطات وهويّة الشخص الذي يجب الاتصال به عند الحاجة، إلاّ أنهم وقعوا في حيرة من أمرهم بسبب تعددّ المجموعات المعارضة، لا سيّما المسلحة منها. وعند الحاجة، كانوا يرسون حواراً مع المجموعات المعارضة المسلحة. وعلى سبيل المثال، حين تمّ احتلال المدرسة الأرمنية في حمص لفترة وتحوّلت إلى مستشفى ميداني، كان من الممكن الاتصال بالمجموعة المتمردة المعنية واسترداد ملفات المدرسة والحواسيب. الأمن هو المشكلة ويكمن فارق كبير آخر في أن الأرمن اللبنانيين كانوا مستعدين للدفاع عن حياديتهم. وفي عام 1979، كان قائد حزب الكتائب بشير الجميل يحاول جلب القوى المسلحة «المسيحية» كافة تحت قيادته وقمع منافسيه بقوة السلاح. في هذا الإطار، حاولت قواته دخول الحي الأرمني في برج حمود (الواقع شرقي مدينة بيروت)، إلا أنّ الأرمن المسلحين المحليين دافعوا عن حيّهم في قتال استمرّ طوال أسبوع. لكن الأرمن في سورية لا يملكون خياراً كهذا. وفيما بدأت المعركة في حلب، أصبحت المدينة منقسمة بين الأحياء الواقعة تحت سيطرة الجيش، بينما انتقلت أحياء أخرى تدريجاً إلى سيطرة الجيش الحر، مع اقتراب القتال تدريجاً من وسط المدينة، بما يشمل أحياء العزيزية أو الجديدة، حيث يوجد الأرمن بكثافة. وعلى رغم فشل المحاولات التي قام بها النظام لإنشاء «لجان شعبية» محلية من أجل دعم الجيش الذي يضمّ جنوداً أرمن، أخفق المجتمع في إبقاء أحيائه بمنأى عن الأذيّة. لكن يبدو أنّ المزاج العام الأرمني يشوبه شعور بالسأم حيال المقاتلين المتمردين. ومن بين أسباب ذلك فكرة يتقاسمونها مع باقي سكان المدينة، وهي أنّ المحاربين المتمردين هم «دخلاء»، لا سيّما مع دخول شبان مسلحين من الريف إلى شوارع وسط المدينة. أما السبب الآخر الذي يدعو إلى التشكيك بالقوات المتمردة، فشعور يتقاسمه الأرمن مع الأكراد، وتقوم شكوكهم التقليدية حيال تركيا وواقع أنّ قيادة الجيش السوري الحر متمركزة في الأراضي التركية. لا سجال حول حياد الأرمن كمجتمع. وما يهدد المجتمع هو صراع طويل الأمد سيؤدي إلى تشتته. لقد رحل نحو ألف شاب للبحث عن ملاذ آمن في يريفان، أو بيروت، لئلا يخدموا في الجيش. وفي حال استمر النزاع لفترة طويلة، قد يبحث جيل بكامله عن مستقبله خارج مسقط رأسه، علماً أن تهديداً آخر يكمن في المشاكل الأمنية المتزايدة في سورية. وفي بداية شهر تشرين الثاني (نوفمبر)، تمّ إيقاف باص متجه من بيروت إلى حلب في سراقب، حيث تمّ خطف 7 سوريين من مدينة حلب، بينهم 5 من الأرمن ومسيحيان اثنان. وطلب الخاطفون فدية عالية مقابل إطلاق سراحهم. تدلّ قضية آفو كابريليان على أنّ السلطات في دمشق لا تحمي الأقليات، على رغم الدعاية الرسمية وما يكرّره المسؤولون في موسكو. وحتى في لحظة انهياره، مع سقوط الموقع العسكري تلو الآخر بين أيادي القوات المتمردة، لا يسع النظام أن يتخلّى عن عادته السابقة. إذ إنّ تصوير اللاجئين في حديقة عامة، قد يؤدي إلى زجّك في زنزانة مظلمة في سجن سرّي تحت الأرض. ولا شكّ في أنّ الحظ حالف آفو وأصدقاءه لأنه تمّ إطلاق سراحهم بعد أن أسروا ثلاثة أسابيع.