في محاولة لشرح ما يعنيه اختيار محافظ المصرف المركزي الكندي مارك كارني لشغل منصب محافظ البنك المركزي البريطاني كأول شخصية أجنبية تقود المصرف في تاريخه الممتد لنحو ثلاثة قرون، استخدم وزير المال الكندي جيم فلاهرتي عبارة دارجة تنم عن مزيج من أحاسيس الخسارة الفادحة ومشاعر الفخر والاعتزاز: حدث بطعم العسل المر. لكن الحقيقة التي كشفتها ردود الفعل الصادرة عن أكثر من طرف معني، هي أن تعيين كارني وإعلانه رسمياً الاثنين الماضي جاء مثابة حدث مفاجئ للكثيرين وفي مقدمهم الشخص المعني مباشرة به خصوصاً بعدما صارح هيئة الإذاعة البريطانية في آب (أغسطس) المنصرم أنه غير راغب في المنصب. وطبقاً لردود الفعل لا يبدو أن تصريح عدم الرغبة في المنصب العريق نم عن حالة من الزهد المتطرف لدى كارني أو حتى أي شيء يقترب من الاعتراف بقصور المؤهلات، إذ أن الرجل لم يعرف بطموحه الشديد فحسب بل أيضاً بمؤهلاته التي شملت شهادات دراسات جامعية وعليا في الاقتصاد من جامعتي هارفرد وأكسفورد، وخبرة اكتسبها من العمل أكثر من عقد لدى أحد أعرق مصارف «وول ستريت» الاستثمارية، «غولدمان ساكس». وقاد كارني (47 سنة) المصرف المركزي الكندي في أحلك لحظات الأزمة المالية التي انفجرت في «وول ستريت» في خريف 2008، مساهماً في تحصين المصارف الكندية ضد تداعياتها العالمية الكارثية بفضل توليفة من الضوابط والسياسات التي نالت اعترافاً واسعاً جعل المصارف والاقتصاد الكنديين، بحسب تصريحات مشهودة لعدد من أعضاء الكونغرس الأميركي، مثالاً يحتذى. واختتم كارني سجل مؤهلاته برئاسته منذ السنة الماضية، «مجلس الاستقرار المالي»، الهيئة الدولية المعنية باستقرار النظام المالي العالمي وإن كانت عضويتها انحصرت حتى انفجار الأزمة المالية، بالدول المتقدمة لا سيما أعضاء منظمة التعاون والتنمية، وذلك خلفاً لماريو دراغي الذي انتقل لشغل منصب محافظ المصرف المركزي الأوروبي. وتهافتت الصحافة الكندية على عدد قليل من تصريحات وبيانات الترحيب التي صدرت عن جهات ذات ثقل في الأوساط المالية والاقتصادية البريطانية، مثل اتحاد غرف التجارة الذي امتدح تعيين كارني ملاحظاً أن سيرته على رأس الهرم المصرفي الكندي وخبرته الواسعة في عالم النظام المصرفي العالمية، تجعل منه الرجل المناسب لتسلم قيادة دفة بريطانيا عبر تحديات الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها، في إشارة إلى مخاوف جدية من سقوط بريطانيا في براثن الركود للمرة الثالثة في فترة قياسية. لكن محللين في عالم المال والاستثمار لم يخفوا تحفظاتهم على الإسراف في التفاؤل بسبب ضخامة التحديات التي تواجهها بريطانيا على صعد مديونيتها وعجوزاتها المالية وهشاشة اقتصادها، وأخيراً وليس آخراً، احتمال انسحابها من الاتحاد الأوروبي. ولخص محلل لدى المؤسسة المالية العالمية الضخمة «آي إن جي فايننشال ماركتس» التحفظات الشائعة وأسبابها بالقول لصحيفة كندية يومية في شأن كارني، «لا أعتقد بأنه تعرض في الحقيقة للاختبار، فالقطاع المالي الكندي لم يتعرض للانهيار (كما الحال بالنسبة لبريطانيا)».