«النصر» ليس ايديولوجياً على ما شرعنا نُفسر الانتصارات التي راحت تتهاوى على رؤوسنا في أعقاب الحروب الأخيرة مع اسرائيل. ليس ايديولوجيا تستعيض بها الأطراف التي خاضتها عن هزائم ضمنية وداخلية وعميقة ألمت بها. «النصر» ذروة البراغماتية، لكنها براغماتية من نوع عنيف ودموي، ذاك أنها تُصَرِّف الدماء المسالة سلطةً. ما ان انتهت الحرب في غزة حتى أًُعلن النصر. لا بأس ربما، انها الحرب ولا بد من منتصر حتى تكتمل. ومواجهة «النصر» بالأرقام لم تعد مجدية، اذ ان الضحية في كشفها عن حجم التمزق الذي أصابها تكون تُمعن في دورها كضحية، وفي حروبنا لا يفيد ذلك بشيء. الدروس والعبر التي تعقب الهزائم ليست لعبتنا، فقد خسرنا الحرب تلو الحرب من دون عبرة واحدة، الى ان جاء من قال لنا إننا انتصرنا... اذاً انتصرنا، وما الضير في ذلك؟ لم ننتبه الى حقيقة ان من أعلن «النصر» أراد له وظيفة، فالسلطة لا تستقيم عقب هزيمة. السلطة تحتاج الى نصر لكي تؤبّد سلطتها. البعث في سورية «أبّد» سلطته المترنحة اليوم في أعقاب «نصر» العام 1973. ختم الجبهة بالشمع الأحمر وتحول الى الداخل. حالة طوارئ ومجتمع يُعد للحرب المقبلة وسلطة عنيفة وفئوية وجائرة، وخطاب النصر يُتوج مرارة السوريين في سجونهم الصغيرة، وفي سجنهم الكبير. لقد كان نصراً من دون استعادة الجولان، انه نصر فقط، لا الأرقام تؤكده ولا الإنجازات ولا الغنائم، لكنه نصر ومن يقول غير ذلك فهو خائن. وقد أنشئت حول هذا النصر مؤسسات ومناهج تعليم، وأنيط به تأديب المشاغبين والمعارضين، كما صارت له عصبية طائفية، وهُزمت على اثره مدن بأكملها. في لبنان أقفل «حزب الله» الجبهة بعد «نصر تموز» الإلهي، فأدار الحزب وجهه الى الداخل. وعقب حرب تموز أيضاً احتل الحزب وسط بيروت عبر اعتصام «مدني»، وبعد ذلك نظم حملته العسكرية الشهيرة المسماة «7 أيار» فاحتل مزيداً من الشوارع والمناطق في العاصمة. واذا أردنا ان نؤرخ لظاهرة القمصان السود بصفتها وسيلة «ديموقراطية» في تشكيل الحكومات، فمن الممكن القول إنها جرت بعد «النصر الإلهي». و «حزب الله» يُمسك اليوم بالمجتمع اللبناني عبر حكومته أولاً، وعبر سلطته الممتدة على مناطق واسعة في لبنان، والأرجح انه ما كان له ان يستكمل مهمته هذه من دون هذا «النصر». حرب غزة الأولى (2008- 2009) توجت ب «نصر» من هذا النوع، فقد دُمر القطاع بأكمله وانتصرت «حماس»، لا بل إن الدبابات الإسرائيلية وصلت الى مسافة مئات الأمتار من مستشفى الشفاء حيث كانت قيادة «حماس»، وعلى رغم ذلك انتصرت الحركة. ومرة أخرى ما كان ل«حماس» ان تستمر سلطة في قطاع غزة من دون هذا «النصر»، لا بل ان السلطة التي كانت انتزعتها عنوة قبل نحو سنتين من نصرها، تضاعفت وطأتها بعد هذا النصر، فصار هناك سجناء سياسيون، وقوانين للمدارس من خارج منهاج السلطة الوطنية. قد يُبادر بعض المنتفضين لكرامة «المنتصرين» في دمشقوبيروتوغزة الى القول بأن تفسير «النصر» على هذا النحو جزء من خطاب الهزيمة في أحسن الأحوال، أو انحياز الى العدو وإهدائه «نصراً» مجانياً. لكنْ، فلنراقب الموقف الإسرائيلي، لا بل المصلحة الإسرائيلية من «انتصارات» البعث في 1973 و «حزب الله» في 2006 و«حماس» في 2009. لقد أمنت هذه «الانتصارات» الحدود مع اسرائيل على نحو لم تؤمنه اتفاقيتا كامب ديفيد ووادي عربة للسلام مع مصر ومع الأردن. ثم إن اسرائيل على ما لاحظ مراقبون كثيرون لم تبذل جهداً يُذكر لتسجيل هزائم خصومها. لم تكشف عن أهداف أصابتها ولم توجه الى معنويات أعدائها أي سهم. فعلى عادتها كان الخبث ديدنها في تقويم نتائج حملاتها، وشعرت ان في امكانها ان تستثمر في انتصارات «نا». قالت خذوا انتصارات واعطونا انجازات. في حرب تموز 2006 تمكن «حزب الله» من إيذائها، فعضت على الجرح وأعطته ما يريد من غير كيسها، وهو نصر توّجه الحزب بسلطة، وأخذت في مقابل ذلك 15 ألف جندي دولي ليحموا لها حدودها مع لبنان. اليوم يبدو ان «حماس» وبغض النظر عن انتقالها في عمقها الإقليمي من محور الى آخر، في صدد تحصين موقعها في غزة بمزيد من «الشرعية» التي أهدتها إياها اسرائيل في حربها الأخيرة على القطاع. النتائج الأولى لهذه الحرب انتزاع «حماس» شرعية اقليمية ودولية بموافقة اسرائيل، ومزيد من الوهن أصاب السلطة الوطنية في رام الله، وتجاوز اتفاقيتي مدريد وأوسلو في عمليات المفاوضة. غزة صارت دولة «حماس» في حين لا يبدو ان الضفة هي دولة فتح، فالإسرائيليون الجدد من المستوطنين يقضمون الأرض هناك، في حين فكك الإسرائيليون «الأوائل» مستوطناتهم في دولة «حماس» في القطاع. اسرائيل شريكة أكيدة في انتصارات «نا»، ومن يزور القطاع يتحقق من ذلك بأم عينه على نحو أوضح مما يلمسه في جنوب لبنان وفي الجولان. ففي غزة المهمة ليست حماية الحدود، انما تأمين قبر لائق لاتفاق مدريد. وهذه مهمة لا تُخفي «حماس» في خطابها المعلن رغبتها في القيام بها. انتصر البعث في 1973 في الحرب من دون ان يستعيد الجولان، فهو ثبّت سلطة كانت مهددة بمنطق الإنقلابات التي شهدتها سورية على مدى ربع قرن قبل «النصر». وانتصر حزب الله في حرب تموز 2006 في لبنان، والدليل ان الحزب اليوم هو السلطة وهو الحكومة وهو الأقوى. وانتصرت «حماس» في حربي 2009 و2012 في غزة. اسرائيل لم تُهزم في هذه الحروب، فأي دولة تتحمل أربع هزائم في ظرف ثلاثين سنة؟ لا بل إن اسرائيل وباعتراف خصومها وأعدائها أقوى اليوم من أي وقت مضى. اذاً، هناك منتصر غانم واضح ومعلن في هذه الحروب... بقي علينا ان نُحدد هوية المهزوم.