أسئلة عدة تطرح في أعقاب الاجتماع الذي عقدته قيادة أركان الجيش الإسرائيلي في السادس من الشهر الجاري لتلخيص تجربة حرب غزة واستخلاص العبر منها، في الوقت الذي تكثف معاهد الأبحاث ويركز الخبراء والباحثون في تحليل وضع إسرائيل والجيش الإسرائيلي بعد مرور ثلاث سنوات على حرب تموز، هذه الحرب التي يتجاهلها الجيش تقريباً. وانعكس تجاهل القيادة العسكرية لمرور ثلاث سنوات على حرب تموز أيضاً في إبلاغ أهالي جنود إسرائيليين قتلوا في حرب لبنان بعدم مشاركة القياديين في مراسم الذكرى. وبرز في شكل صارخ في تغيّب رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، ورئيس اركان الجيش غابي اشكنازي عن هذه المراسم، ما اعتبره أهالي الجنود إهانة غير مفهومة لهم ولأبنائهم القتلى فيما رأى البعض انها محاولة لعدم إعطاء حيز كبير من الاهتمام أو جعل نقاش حرب لبنان في ذكرى ثلاث سنوات عليها ذا أهمية أولى في إسرائيل. وفي حين أكد خبراء وباحثون وجود علاقة مباشرة بين حربي غزة ولبنان، فإن قيادة الجيش تفصل كلياً بين الحربين ولا تجد جانباً مشتركاً بينهما، خصوصاً في أبعادهما على إسرائيل، معتبرة ان الجيش اظهر في غزة تفوقاً كبيراً. وخرج اشكنازي يتغنى بانتصارات الجيش تحت قيادته في حرب غزة معتبراً التكنولوجيا العسكرية المتطورة التي استخدمها الجيش ساهمت في شكل كبير في التفوق على حركة «حماس»، فيما العبر من هذه الحرب تتطلب الاستمرار في التدريبات العسكرية يومياً وإبقاء الجيش على أهبة الاستعداد لأي حرب محتملة. ترويج موقف الجيش هذا لم يصمد كثيراً أمام مواقف ودراسات وتحليلات الخبراء والباحثين، الذين أظهروا موقفاً مناقضاً لمواقف رئيس أركان الجيش والقيادة العسكرية الى حد ان شكك البعض بقدرة الجيش الإسرائيلي بعد حربي لبنان وغزة في الحفاظ على الصفة التي تميز بها حتى حرب لبنان الثانية «الجيش المنتصر حتماً والذي لا يقهر». وارتكز اكثر من بحث إسرائيلي على التقارير التي روجتها أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية حول النشاط الذي تمارسه حركة «حماس» لإعادة تعزيز قدراتها العسكرية وقدرة «حزب الله» العسكرية والحديث عن حيازته عشرات آلاف الصواريخ بهدف إطلاق ألف صاروخ يومياً وعلى مدار ستين يوماً، الى جانب ما تملك سورية من كميات كبيرة من الصواريخ وربما اشد كثافة. إزاء هذه التقارير يرى باحثون صعوبة قدرة أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية على التحذير من وقوع حرب والتقدير بأن قصفاً لتلك الترسانة الصاروخية سيؤدي الى شلل ولو جزئي، للاستعدادات التي تعدها إسرائيل للهجوم المضاد وحتى الدفاع. وفي هذا الجانب أبدى الباحث في معهد أبحاث الأمن القومي زاكي شالوم في تلخيصه لثلاث سنوات على حرب لبنان وابعاد حرب غزة مخاوف حين قال «ان نتائج الحربين تؤكد ان الجيش الإسرائيلي لم يعد ذلك الجيش الذي عهدناه على مدار الحروب السابقة حتى تموز (يوليو) 2006 فيما الوضع الذي نشأ بعد الحربين خلق واقعاً أمنياً صعباً يشكك في قدرة امتلاك إسرائيل رداً مناسباً عليه»، وأضاف: «الواقع الذي أفرزته حربا لبنان وغزة يطرح سؤالاً كبيراً عما إذا كانت إسرائيل قادرة على مواجهة الحرب المقبلة والخروج منها منتصرة وهو ما يدعو القيادتين العسكرية والسياسية الى دراسة الوضع وفحص نظرياتهما الأمنية فحصاً عميقاً». وفي استعراضه للوضع يقول: «في المراحل الأولى من المواجهات في غزة كان واضحاً أن «حماس» في صدمة تامة وجاءت المرحلة الثانية من المعركة، أي العملية البرية، لتكون مفاجأة اكبر ل «حماس». وفي المحصلة العامة تم التقدم البري في أيام القتال الأولى بغير عوائق. ويمكن القول، انه في أثناء الحرب على غزة تمتعت إسرائيل بتفوق تام على العدو سواء في حجم القوات التي تملكها، أو في زيادة قوة النار التي استطاعت إظهارها، أو على الصعيد التكنولوجي. وفوق كل شيء كان ولا يزال لاسرائيل تفوق جوي راسخ غير مهدد ونجحت الأذرع الجوية في أن توقع بحماس ضربات شديدة من غير أن تستطيع المس بنشاطها هذا على نحو ما». ولكن، يضيف الباحث منبها : «على رغم الصورة المثلى لهذا الوضع، فقد أصبح واضحاً اليوم ان إسرائيل لم تنجح في إحراز حسم واضح في الميدان على نحو يمنع طرح السؤال «من انتصر في الحرب»، كما قال رئيس الأركان غابي اشكنازي. فهذا السؤال يطرح ويطرح. وان يكن ذلك بتشكيك اقل كثيراً من ذلك الذي ميز الأسئلة الحائرة التي أثيرت بعد حرب لبنان الثانية. هذا الجزم لا يناقض بالضرورة حقيقة أن إسرائيل حققت إنجازات في الحرب مثل المس الشديد ببنى «حماس» التحتية ورجالها وفرض نظام رقابة أنجع مما كان في الماضي على تهريب السلاح إلى القطاع والذي تلعب فيه مصر والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي دوراً كبيراً». في مقابل الإنجازات التي يتحدث عنها الباحث فهو يؤكد على ضرورة عدم التقليل من إنجازات «حماس» ويقول: «بعد ثلاثة أسابيع من المواجهة مع دولة تعرف أنها قوة عسكرية إقليمية، وفي حين أن ظروف بدء المعركة كانت مثلى من وجهة نظر إسرائيل، بقيت «حماس» في الواقع صامدة بل إن أفرادها حاولوا هنا وهناك ضرب جنود الجيش المنسحبين إلى الشمال من الخلف. ولم تحجم أيضاً عن إطلاق الصواريخ، حتى بعد دخول الهدنة حيز التنفيذ». وبحسب زاكي شالوم فإن الميزان العام لنتائج المعركة في قطاع غزة الى جانب نتائج حرب لبنان الثانية، ولا سيما استمرار تسلح «حزب الله» وتعزيز مكانته وقوته في الساحة اللبنانية الداخلية، يفرض على إسرائيل امتحاناً عميقاً لقوة نظريتها الأمنية البعيدة المدى وقدرتها على الصمود في وجه تهديدات اشد قد تواجهها، مشيراً إلى ان حربي لبنان وغزة تشيران الى ان تهديد المنظمات «الإرهابية» لإسرائيل تجاوز منذ زمن إطار الأمن في اللحظة الراهنة وجعل نفسه في إطار التهديدات الإستراتيجية، فيما احتمال الحفاظ على تهديد كهذا وقتاً طويلاً هو احتمال ضعيف جداً. ويقول الباحث: «أظهرت المعركتان، في غزة وفي لبنان قابلية الجبهة الداخلية في إسرائيل للانتكاس». ويضيف: «في غضون مدة زمنية قصيرة نسبياً نجح «حزب الله» في الشمال و «حماس» في الجنوب في توجيه إصابة شديدة للجبهة الداخلية، حيث ترك آلاف الإسرائيليين في حرب لبنان مناطق سكناهم في الشمال ولجأوا الى الجنوب، وفي أثناء عملية «الرصاص المصبوب» ترك مواطنون من الجنوب المنطقة وتوجهوا شمالاً وفي المنطقتين تضرر النظامان الاقتصادي والاجتماعي كثيراً وما زالا على رغم مرور ثلاث سنوات على حرب لبنان وسبعة اشهر على حرب غزة يحتاجان الى الترميم. ويحذر زاكي شالوم من ان التقارير الإسرائيلية تؤكد ان الجيش لا يملك رداً حقيقياً على تهديد الجبهة الداخلية في حال وقوع مواجهات اخرى مع «حزب الله» و «حماس» في المستقبل القريب. ويضيف: «لقد استخدم الجيش في المعركتين قوة كثيفة من سلاح الجو، والمدرعات والمشاة. واضطر الى تجنيد كبير لجنود الاحتياط، وفي الحقيقة أن الجيش لم يستنفد كل قدراته، لكن المعركتين دارتا من جهات كثيرة في مخطط حرب نظامية من كل جوانبها، لا في مخطط «حرب ضعيفة»، كما اعتادوا تسمية المواجهة بين دولة ومنظمة. كذلك في الحربين لم ينجح الجيش الإسرائيلي في التوصل إلى حسم حقيقي إزاء الأعداء الذين يقلون عنه كثيراً من كل الجوانب العسكرية. ومن هنا يستخلص الباحث ان على القيادتين السياسية والعسكرية الاستعداد لاحتمال حرب نظامية يحتاج فيها الإسرائيليون الى تخصيص موارد اكثر للدفاع عن أنفسهم انطلاقاً من ان هناك احتمالاً أن يصاب في المعركة المقبلة مواطنون في مركز البلاد أيضاً، ويضيف: «سيكون من الصعب على الجيش مرة أخرى ضمان النصر حتى بمعناه المحدود». ويتابع: «الشرق الأوسط منطقة مملوءة بالمفاجآت والسيناريوات غير المتوقعة، ما سيضطر إسرائيل الى الاستعداد لخطر مواجهة حربية مع دول عربية متوقع ان تدخل على خط المواجهة وفي مثل هذا الوضع سيواجه الجيش الإسرائيلي جيوشاً نظامية تضم مئات الآلاف من الجنود تصحبهم قوات مدرعة، ومشاة وقوات جوية. وأكثر من كل ذلك، فإن هذه الدول تملك قدرة كبيرة على إبطال تفوق الجيش الإسرائيلي الجوي بقدر كبير كما برز في حرب لبنان وفي المعركة في قطاع غزة بواسطة عنصرين أساسيين: - إحداث ميزان رعب، أي إطلاق صواريخ بعيدة المدى على المدن الإسرائيلية الرئيسة رداً على نشاط سلاح الجو. - استعمال نظم متقدمة للدفاع الجوي لإصابة طائرات سلاح الجو، ما يعني ان الأذرع الاستراتيجية الرئيسة للجيش الإسرائيلي لن تكون قادرة على العمل بحرية كما عملت في حربي لبنان وغزة. وفي سيناريواته يتوقع زاكي شالوم وضعاً اخطر من حربي لبنان وغزة بحيث تكون حرباً تبادر إليها الدول العربية وتشارك فيها أيضاً المنظمات في إطلاق مكثف للصواريخ وقصف المدن والتجمعات السكنية والقواعد العسكرية وطرق النقل والمصانع. وفي جانب التركيز على حرب جديدة بمشاركة تنظيمات مثل «حزب الله» يرى خبير شؤون الإرهاب، يورام شفايتسر ان إمكانية تقويض مثل هذه المنظمات بات أمراً مستحيلاً بل غير منطقي ويقول: «إذا تحدثنا عن «حزب الله» فطبيعي ان ما يحظى به من دعم من إيران وسورية لا يهدف فقط لمساعدته على إعادة بناء قوته العسكرية بعد حرب تموز إنما لجعله قوة كبيرة في المنطقة». ويحسم شفايتسر في هذا الجانب بقوله ان من يتوقع ان تتمكن دولة «ديموقراطية» من هزيمة منظمات «إرهابية» أو مواجهة حرب عصابات عسكرية هزيمة كاملة يكون مخطئاً بل سيجد نفسه في نهاية الحرب محبطاً لأن دعم الدول الراعية لهذه المنظمات سيمكنها من إعادة بناء قوتها وترميم قدرتها وتجديد كامل قواها العسكرية لتستأنف من جديد نشاطها العسكري. الباحث في معهد البحوث الأمنية، أمير كوليك، يرى ان الجيش الإسرائيلي بعد ثلاث سنوات على حرب تموز مضطر في حربه المقبلة مع «حزب الله» الى وضع هدف تحقيق الردع والمس بقدرة الحزب ومنعه من بناء نفسه من جديد بعد الحرب. ويرى ان تحقيق هذا الهدف لا يتم من خلال المس بمؤسسات الحكم ومنشآت البنى التحتية المدنية كما تم في حرب غزة بل على نحو أجدى وبثمن دولي اقل، بالمس بالبنية التحتية المدنية والاقتصادية لحزب الله نفسه. ويضيف: «هذه البنية هي ذخيرة استراتيجية للمنظمة وقد أصيبت في شكل كبير في حرب لبنان الثانية، لكن هذه الأضرار كانت نتيجة الهجوم على البنى التحتية العسكرية. في هذا السياق يجب ان تكون المراكز الشيعية الكبيرة في الجنوب، وفي البقاع وفي بيروت هدفاً رئيساً الى جانب المس ببنية الحزب التحتية الاقتصادية المستقلة في لبنان. ويشدد كوليك على ضرورة تقصير فترة الحرب ويقول: «على إسرائيل ان تفكر ان عامل الوقت في المعركة المقبلة في لبنان قد يكون مختلفاً تماماً، وقد يملك الجيش مدة اقصر من حرب لبنان الثانية أو حرب غزة، وعليه يجب ان تكون المعركة مدروسة جيداً منذ البداية، بحيث يضمن الجيش الإسرائيلي حسم المعركة في وقت قصير». وكيف يمكن ذلك؟ يقول كوليك ان إحدى سبل تقصير مدة القتال هي ان يتم قبل الخروج الى المعركة نشاط ديبلوماسي يضمن إنهاء الحرب بعد أيام قليلة وخلال ذلك تتم التسوية. وبرأي كوليك فإن التسوية مع لبنان يمكن الاتفاق عليها مسبقاً مع الأطراف الدولية وذات الصلة قبل المعركة بغض النظر عما ستكون عليه نتيجة القتال. ومن وجهة نظره ليمكن ان تشمل التسوية حلاً لإغلاق الحدود بين سورية ولبنان ومنع نقل وسائل قتالية من إيران، وإبعاد «حزب الله» عن الجنوب وغير ذلك.