«أترى، حين أفقأ عينيك، ثم أثبت جوهرتين مكانهما، هل ترى؟». أترى، لو أعاد الراحل أمل دنقل كتابة كلماته اليوم، هل يبقي على «الجوهرتين» أم يستعيض عنهما ب «لجنتين»؟ حين فقئت عيون الثوار قبل عام في شارع محمد محمود، تم تثبيت «لجنتين» في أماكنها: الأولى لجنة تقصي حقائق محصلتها صفر، والثانية لجنة كتابة دستور محصلتها صفران. أصفار الثورة المصرية المحققة ألقت بظلال وخيمة على كل صوت يقع في الشارع وآخرها إحياء الذكرى الأولى لأحداث محمد محمود الدامية. الشح الحاد في المعلومات والمصحوب بارتفاع شديد في ضغط التيارات الحاكمة للاحتفاظ بما حققت من انتصارات والذي يرافقه ارتفاع حاد في درجة حرارة الشارع الذي زاد أنينه من فقر يتضخم ورخاء يتأخر ووعود بنهضة تبددت في أجواء إقصائية استعلائية استحواذية عوامل أدت إلى تنامي مشاعر الغضب لدى الشباب. والحقيقة أن أوجه التشابه بين أحداث محمد محمود وذكراها تعددت وتنوعت. اللافتة الضخمة التي اعتلت مدخل الشارع جهة ميدان التحرير حظرت - ولو ثورياً - دخول «الإخوان المسلمين» فعاليات إحياء الذكرى: «ممنوع دخول الإخوان» قرار شبابي ثوري في تشرين الثاني (نوفمبر) 2012، بعدما منع «الإخوان» أنفسهم من الدخول في تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 خوفاً على كرسي برلماني انحل لاحقاً وآخر رئاسي حل نفسه لاحقاً أيضاً عن بقية المصريين من غير «الإخوان». صحيح أن جانباً كبيراً من إحياء ذكرى التظاهرات التي أدت إلى تحديد المجلس العسكري موعداً لتسليم السلطة، اشتمل على نبش في تصريحات ومواقف عام مضى بدأت بتأكيد المرشد العام لجماعة «الإخوان» أن ما جرى في محمد محمود كان محاولة للتأثير في «العرس الديموقراطي» ومرت بوصف نائب المرشد خيرت الشاطر الأحداث بأنها «دعوة إلى الفوضى»، وانتهت بنعت المتظاهرين ب «البلطجية» و «الفوضويين»، لكنها انتهت بالحاضر، وما أدراكم ما الحاضر. الحاضر هو جريدة «الحرية والعدالة» الناطقة باسم الحزب التابع للجماعة والتي لم يدر أي من محرريها كما ظهر في عدد أمس بأن أحداثاً تجري على مرمى حجر من مقر الجريدة في حي المنيل القريب من شارعي محمد محمود ويوسف الجندي، فخرج عددها خالياً تماماً من أحداث الدماء والحجارة. المتفكهون اقترحوا إطلاق اسم «الدماء والحجارة» على «محمد محمود»، فيما أصر الجادون على أن يكون الاسم إما «الشهداء» أو «عيون الحرية». أصحاب عيون الحرية وأصدقاء الشهداء هتفوا هتافات قاسية بعضها دعا إلى البهجة والفرح «افرح افرح يا مبارك، مرسي هايكمل مشوارك»، وبعض ساوى بين الحاكم والأمن ب «يسقط الشاويش يسقط الدرويش»، وبعض آخر أعاد إحياء التنديد بالبيع في العام الماضي صارخين «بيع بيع الثورة يا بديع». تغريدات «تويتر» عكست درجات الطيف السياسي في ما يختص ب «محمد محمود»، ألوان الشباب الزاعقة عبروا عنها بتلخيص ما حدث في شارع محمد محمود قبل عام وهو ما لم يتغير أيضاً بعد مرور العام: «كان يوماً فيه الإخوان معرضين، والشباب مقدمين، والعسكر قاتلين، والنخب صامتين، والغالبية متفرجين». وألقى النشاط السياسي الثوري عليه بظلاله، فكتبت الناشطة سالي توما: «طالما القصاص بعيد، طالما في القلب نار غضب». القصاص المتعثر والدستور المسلوق يؤلبان مشاعر الخسارة لدى متظاهري «محمد محمود» المهمومين بأقرانهم الذين راحوا من أجل مصر جديدة، وزملائهم الذين فقئت أعينهم من أجل بصيص ضوء في وطن متعثر، ولذلك لفتت التغردية الأحدث على حساب الكاتب الراحل جلال عامر إلى أن «اسم الشارع تغير من محمد محمود إلى عيون الحرية، لكن منذ مطلع القرن حتى مطلع الكوبرى لم يتغير سلوك الحكام». ويبقى تغيير سلوك الحكام مهيمناً على شارع محمد محمود، فهل يتغير بتغيير المادة المساعدة على الالتصاق بالكرسي، أم يتغير بمن هم متجمهرون حول الكرسي أم بتغيير الكرسي نفسه؟ بعضهم يأخذ على الشباب نزولهم لإحياء ذكرى محمد محمود والهتاف بسقوط «الإخوان» مؤكداً أن الشعب نفسه أوشك على إسقاطهم بعد أسبوع، وبعضهم يدعم المتظاهرين ويشد من أزرهم ويعطيهم كل العذر بعدما عز القصاص وخرجت لجان تقصي الحقائق كما دخلت، وآخرون ما زالوا يدور في فلك اتهامهم تارة بأنهم «بلطجية مأجورون»، وتارة بأنهم «فلول مدسوسون»، وتارة بأنهم «فوضويون علمانيون»، لكنهم في كل الأحوال «نزلوا لإفشال الرئيس». ويقتبس المصريون بتصرف من الفنان الراحل علاء ولي الدين سؤاله الشهير في أحد أفلامه: «كابتن كابتن! هو كله حداد حداد مافيش قصاص؟!». ويبقى السؤال مطروحاً في محمد محمود، وتبقى الإجابة عصية على الجهر لدى كثيرين.