يدير الأردن الإعلام بالطريقة البائدة التي كانت تدار بها وسائل الإعلام في الدول الشمولية، أيام الحكم الستاليني، وحقبة المعسكر الاشتراكي والدول التوتاليتارية. ومع أن الزمان وتحولاته قادت غالبية تلك الدول إلى الانفتاح والتعددية، إلا أن الإعلام في الأردن، وغالبيته تسيطر عليه الأجهزة الرسمية وتتحكم فيه، لا يزال يحتكم إلى الرواية الواحدة الوحيدة، ما جعل الصحافة في الأردن في السنوات الأخيرة شحيحة وعديمة الخيال ومفتقرة، إلا ما ندر، إلى الجهد الاستقصائي، والتقارير التي تحدث ضجيجاً وتقود إلى تغيير الوقائع، وحماية المجتمع وتنويره. الحراك في شارع الصحافة هادئ ورصين، وما انفكّ يرتدي أزياء الستينات، على عتقها، على رغم الثورة التكنولوجية الهائلة التي أصابت الإعلام أكثر من أي حقل آخر، ونقلته إلى حيز لا يستسيغ السكنى إلا مع التعددية والتشاركية وشيوع الروح النقدية في ما يُكتب وينقل ويصوّر. ولا يأتي المراقب بجديد إن هو لمح خوفاً مضمَراً في أحشاء العقل السياسي الأردني يميل إلى احتواء الإعلام، حيث يتضافر مع الجهد السياسي جهدٌ أمني مكثف وحثيث للسيطرة، بقفازات من حرير، على مجمل وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية، حيث أضحت الصحف التابعة للحكومة تضيق بآراء الكتّاب فيها، فانتعشت عبارات «منع من النشر» على بعض المواقع الإخبارية الإلكترونية التي لا تسبّح بآلاء الحكومة، وتغرّد خارج السرب، ما جعل العقل السياسي الأمني يصوغ قانوناً للمطبوعات، مكمِّماً الأفواه، هدفه إدخال تلك المواقع «المتمردة» بيتَ الطاعة الرسمي، وإلا واجهت الحجب! وفي غمرة ذلك، من البديهي أن يكون من يشغل المواقع الإعلامية مرضيّاً عنه من «الجماعة»، أي من الأجهزة الأمنية، من غير التفات إلى الكفاءة والقدرة على التغيير. لذا ليس من المستغرب أن تسمع تصريحات لرؤساء تحرير يعلنون أنهم «مجرد منفذي تعليمات غالباً ما تكون ضد قناعاتهم»، وبعضهم يحلو له استعمال المثل الشعبي: «اربط الحمار مطرح ما بدّه صاحبه»، على ما في هذا المثل من فظاظة، وإذعان، واستهتار ب «السلطة الرابعة» التي يتفكّه صحافيون فليفظون كلمة «السلطة» بفتح سينها ولامها! وثمة من يدعو إلى جعل «إصلاح الإعلام» مقدّماً على «إصلاح النظام»، لأن أي جهد إصلاحي من دون تعددية إعلامية، وحريات صحافية، وقدرة على النقد، ومساجلة السياسات الرسمية، لا يمكن أن يسفر عن أي تغيير جوهري. وبالتالي، فإن خطابات الإصلاح التي تتبناها الدولة تسقط، منذ الوهلة الأولى، في امتحان الصدقية والشفافية، ولا تؤخذ على محمل الجد، وثمة شعارات تصف قامة الإعلام، غدت مفرغة من محتواها، ودليلاً على افتقار السلطة الى الخيال، والحلول المبدعة. وفي عتمة هذه اللجّة، يذهب القراء اليائسون من الإعلام الرسمى وما دار في فلكه، إلى الإعلام الإلكتروني الذي وإن تخفف أحياناً من الاعتبارات المهنية، إلا أنه يمثل حاضنة لمعرفة الجانب الآخر من الرواية التي أغفلها إعلام الصوت الواحد. كما أن ضحالة المادة المقدمة في الإعلام الرسمي، أنعشت المواقع الإخبارية الإلكترونية، ومنحتها مشروعية، حتى غدت، أو كادت، بديلاً من ذلك الإعلام المتجهم الذي لا مهمة له إلا النفي، أو تسخير قواه لمحاربة المعارضة، وشحذ همم «كتّاب التدخل السريع» من أجل «شيطنة» الحركة الإسلامية وتأثيمها. الخاسر الأكبر من وراء انتهاج هذه السياسة هو الحقيقة التي تتلوى من فرط ما أهانها الإعلام الرسمي ونكّل بها، ما يدفع إلى التساؤل عن العقل المركزي الذي يدير ملف الإعلام الأردني على هذا النحو الذي ينتسب إلى ما يتوخى البشر نسيانه من غطرسة قوة الدولة، وهيمنة قوى الأمن على الفضاء العام، وسيادة نزعة الوصاية على العقول والأقلام، والتلويح بالمنع والحجب والشطب والإقصاء في حال الخروج عن صراط العقل الأمني. وليس من قبيل السخرية تذكير ذلك العقل المستقيل من دينامياته بأننا على مشارف عام 2013، وأن القرية الكونية أصبحت تضيق حتى صارت حيّاً صغيراً لا يخفى عنه شيء. ولعل هذا الأمر يستدعي، بشدة، أحداث رواية «دون كيشوت» لأهم كتّاب إسبانيا على الإطلاق ميغيل دي ثيربانتس، حيث البطل الذي يقاتل طواحين الهواء، معتقداً أنه يجندل الفرسان، ما دعا أديباً كبيراً بحجم كارلوس فوينتس إلى أن يصف الرواية بأنها «فن يُحيي ما قتله التاريخ»! * كاتب وصحافي أردني