تنهض رواية «كرسي الرئاسة» للروائي المكسيكي كارلوس فوينتس، الذي رحل منتصف أيار (مايو) الماضي، على حدث افتراضي مستقبلي متخيل. هذا الحدث الافتراضي يحدد طبيعة السرد، ويرسم مناخات هذه الرواية التي تكشف عن جوانب من اللعبة السياسية في اميركا اللاتينية، وتحديداً في المكسيك، بلد الروائي. فوينتس في هذه الرواية الصادرة بترجمة خالد الجبيلي عن دار «رؤية» في القاهرة ودار كنعان في دمشق، يحذو حذو هؤلاء في الدخول إلى دهاليز السياسة وألاعيبها. والواقع أن صاحب رواية «موت أرتيميو كروز» لم يكن بعيداً من السياسة، فوالده كان ديبلوماسياً، كما ان فوينتس نفسه كان سفيراً لبلاده في فرنسا منتصف سبعينات القرن الماضي. وهو درس لفترة في تشيلي حيث تأثر بشعرائها مثل بابلو نيرودا وغابرييلا ميسترال. تمضي الرواية بالقارئ الى العام 2020، إذ تفترض أن رئيس جمهورية المكسيك لورنزو تيران؛ المثالي النزعة، يصوّت، خلال اجتماع لمجلس الأمن الدولي، ضد احتلال الولاياتالمتحدة الأميركية لكولومبيا، كما يدعو إلى وقف تصدير النفط المكسيكي إلى الولاياتالمتحدة إذا لم توافق واشنطن على رفع أسعار النفط التي حددتها منظمة الدول المصدرة للنفط (الأوبك). لم تعتد الدولة الأقوى في العالم على مثل هذا الرفض، فيأتي انتقامها سريعاً، إذ تقرر رئيسة الولاياتالمتحدة كوندوليزا رايس، كما يفترض فوينتس، قطع نظام الاتصالات في المكسيك، على اعتبار ان هذا النظام مرتبط بالقمر الاصطناعي الأميركي. تتوقف كل الاتصالات الهاتفية والفاكسات والبريد الإلكتروني والانترنت في المكسيك، ويغوص البلد في كابوس إداري لا حدود له، ويصبح تبادل الرسائل التقليدية الوسيلة الوحيدة للتواصل. هنا يأتي دور فوينتس كي يصوغ رسائل على لسان الساسة، وهذه الرسائل المتبادلة بين الوزراء والمسؤولين والقادة والضباط تشكل قوام هذه الرواية، وتظهر الماراثون الشرس الذي يشارك فيه الجميع طمعاً في الفوز ب «عرش النسر»؛ العنوان الأصلي للرواية. تتضمن الرواية نحو سبعين رسالة يتفاوت حجمها بين صفحة وصفحات. وهي تكشف عن المزاج السياسي السائد في المكسيك، وكيف يتنافس الساسة ويتآمرون للوصول إلى كرسي الرئاسة؛ أو للاستيلاء على «عرش النسر»، وفقاً للشعار الوطني المكسيكي الذي يمثل نسراً يجثم بمخالبه فوق نبات الصبار ويلتهم ثعباناً. منذ الرسالة الأولى سنكتشف موقف فوينتس من السياسية والسياسيين، إذ نقرأ في الرسالة الأولى الموجهة من ماريا دل روساريو إلى نيكولاس بالديبا هذه العبارات الصريحة: لكي تكون سياسياً يجب أن تكون منافقاً، ولكي تمضي قدماً يصبح كل شيء مقبولاً. يجب ألا تكون كاذباً ومخادعاً فحسب، بل ماكراً أيضاً... فكل سياسي يصعد إلى الأعلى يجر وراءه هياكل عظمية، مثل علب الكوكا كولا المربوطة في ذيل قطة متمردة لكنها خائفة»، وفي تعريف آخر نقرأ ان السياسة هي «فن ابتلاع الضفادع من دون ان يرمش لك جفن». وسرعان ما تتوضح في الصفحات التالية تلك اللوحة السياسية المعقدة في بلد مثل المكسيك «الملوثة بأنهار مخضبة بالدم، وبالمقابر الجماعية»، كما تقول الرواية. سنتعرف إلى وجهات نظر الساسة وقناعاتهم ونزعاتهم الانتهازية المفرطة في الوصول إلى المنصب الأعلى في البلاد، خصوصاً أن الرئيس الحالي يعاني مرض السرطان، وموته وشيك. وعلى رغم أن أصحاب هذه الرسائل يشغلون مناصب مرموقة، بيد أنهم يفتقرون إلى الكرامة والنبل والقيم الأخلاقية، وكأن فوينتس يريد أن يقول إن «شرط الوصول إلى تلك المواقع هو التملق والتجرد من القيم السامية، والتحلي بحس التواطؤ والتآمر. أونيسمو كانبال، رئيس الكونغرس المكسيكي، «تافه في كل شيء»، وفق ما تخبرنا به الرسائل، أما المراقب المالي العام دون دومينغو، فهو «يعرف باسم فلامنغو لأنه لا يعرف، أبداً، على أي ساق يجب أن يقف». وزير التعليم العالي «كارثة بكل معنى الكلمة»، في حين أن وزير الصحة «فاسد؛ فاسق». وزيرة البيئة مفعمة بالنيات الطيبة وخيالها شديد الخصوبة إلى درجة أن كل ما عليها أن تفعله هو عكس ما تفكر به لكي تكون واقعية، بينما وزير العمل هو «رجل مقنّع؛ ضبابي»، أما وزير الاتصالات فهو «ذو طبيعة خسيسة»، ورئيس الشرطة الاتحادية هو «ذئب يرتدي ثوب إنسان، ومنح أي سلطة له «أشبه بتعيين شخص يحب إشعال الحرائق مسؤولاً عن إدارة الإطفاء». وزير الاسكان هو أفضل غبي يرتدي بدلة على وجه الأرض، وهو لم يقم سوى ببناء بيت واحد: بيته هو، أما وزير الإعلام فهو «بليد كئيب المزاج، ولديه ابتسامة خجولة، وعينا نمر، ويدا نجار، وجذع مغنٍ ايطالي...»، وهكذا تتوالى الصفات السلبية بلا ملل لدرجة بدت معها الرواية وكأنها مرافعة نقدية جارحة ينتقم بها فوينتس من السياسيين الذين تركوا الشعب المكسيكي لمصيره المؤلم، وراحوا يتدافعون للوصول الى القمة. مهمة صاحب «البقعة الأكثر شفافية» تنحصر في إدانة هذا السلوك، وتعرية تصرفات المسؤولين الذين يقدمون فروض الطاعة والولاء لنيل رضى الرئيس حتى يحلّوا محله عند انتهاء ولايته في 2024، وهذا الولاء ليس صادقاً، على كل حال، فهو «يتغير بسرعة كما تبدّل المعاطف». كل مفردات القاموس السياسي من الخداع والمكر والدهاء والمراوغة والزيف السياسي بين الخصوم، تحتشد هنا، ولا ينكر فوينتس هذا المنحى الهجومي لروايته، فهو يقول إنها «هجاء لا يعرف الصفح، ففيها لا يوجد شخص نظيف ولا تظهر الرواية أي رحمة بأي أحد». وبما ان الرواية تنهمك بألغاز السياسة وأسرارها، فهي لا تغفل عن ذلك السر الشائع في عالم السياسة، والمتمثل في توظيف بعض النساء أنوثتهن حتى يتقدمن في مواقع السلطة. بطلة هذا الفصل هي الفتاة اللعوب ماريا دل روساريو التي لا تملك اية اسلحة سوى جسدها الجميل والكثير من الأسرار والأكاذيب. تنجح في ايصال الشاب بالديبا الى منصب هام، كما تحارب لأجل أن يتسلم سدة الحكم صديقها؛ وزير الداخلية الذي أنجبت منه طفلاً مصاباً بمرض متلازمة داون (منغوليا). يُودع الطفل في أحد المعاهد الصحية الذي تديره الدولة، ليجد نفسه وحيداً بلا حنان. تنتهي الرواية بكلماته: «ألا يعلمون أن الطفل لا يمكن نسيانه؟، لماذا يربطون يديّ خلف ظهري؟، كيف ألعب هكذا؟، كيف أكتب في دفتري الأزرق؟». هذا الطفل الوحيد المهمل بدا وكأنه يرمز إلى جموع الشعب المكسيكي، ذلك ان الرواية تنجح في الدخول إلى غرف السياسة الموصدة حيث تطغى الأسرار والصفقات السرية والخطط الدنيئة، وشعار الجميع هو مقولة ماكيافيللي الشهيرة «الغاية تبرر الوسيلة». لكنها تهمل حرارة الواقع اليومي في المكسيك، وهموم الطبقات الكادحة؛ المسحوقة ليكون ظهور هذا الطفل المنكسر، المشوّه كناية عن الشعب المكسيكي وأحلامه الخائبة: لقد دفنت هذه البلاد الكثير من مشاعر السخط على مر السنين، قرون طويلة من الفقر والظلم والأحلام التي لم تتحقق. وعلى رغم ان السياسة هي الشاغل الأساس في الرواية، بيد ان الرسائل لا تخفي ثقافة كاتبها، إذ سترد اسماء مثل جاك لندن وهمنغواي وشكسبير وفولتير وبغماليون و «موبي ديك»... هذا المنحى الثقافي يحول السياسة الجافة والمباشرة الى مادة أدبية خصبة. ويدرج فوينتس حكايات وقصصاً تاريخية تصلح لأن تكون دروساً معبرة في السياسة مثل تلك الحكاية عن الخليفة هارون الرشيد المستلة من «ألف ليلة وليلة»، والتي تقول: «ما إن تميل الشمس إلى الغروب حتى يغادر الخليفة قصره مرتدياً ثياب شحاذ ليختلط بالناس ويسمع ما يقولونه عنه فعلاً، غير الكلام المنمق المعسول الذي يسمعه من أفراد حاشيته». وهذا الاعتناء الشديد بالنص ليس غريباً عن فوينتس، فهو كان يردد: «إننا نكتب من أجل ألا نموت، مثل شهرزاد، تماماً، نبتدع كل يوم حكاية جديدة، حتى نتخلص من الموت لليلة أخرى».