كثيرة هي الأسباب المنطقية التي تفسر دعوة هيلاري كلينتون الصريحة لإيجاد رأس جديد للمعارضة السورية يتجاوز المجلس الوطني، الطرف الأكثر تمثيلاً والحائز على اعتراف عربي وعالمي، أوضحه في مؤتمر باريس لأصدقاء الشعب السوري. ثمة من يعتبر الدعوة مناورة جاءت موقتة عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية لكسب أصوات الناخبين المتأثرين بما يحدث في سورية وفي مقدمهم الناخبون من اصل عربي، في رهان على أن إظهار اهتمام البيت البيض بوحدة المعارضة السورية ومشكلاتها يمكن أن يخفف ردود الفعل الرافضة لتقصير الرئيس أوباما وسلبيته في التعاطي مع مأساة السوريين التي تهز الضمير العالمي يومياً. وهناك من ينظر إلى الأمر من زاوية التخوف الغربي والأميركي من احتمال انحراف الثورة السورية عن شعاراتها، مع الإشارات التي بدأت تتوارد عن تنامي دور تنظيم «القاعدة» وأشباهه فيها، وهؤلاء توافدوا من أرجاء المعمورة تلبية لنداء «نصرة الإسلام في بلاد الشام»، تالياً لتخفيف قلق بعض السياسيين الأميركيين الذين لوحوا بخشيتهم من أن يفضي سقوط النظام السوري إلى اتساع رقعة التربة الإسلامية الخصبة المواتية لنمو التطرف والعداء لبلادهم وحلفائها، ربطاً بوضوح الوزن الكبير للإسلاميين في الثورات العربية، وبأن «القاعدة» والتيارات الجهادية لا تزال العدو الرقم واحد لدى واشنطن، والتحسب من وصول جزء من الدعم والسلاح إلى قوى قد لا تتأخر في استخدامه ضد الوجود الأميركي ومصالحه في الشرق الأوسط. كذلك ثمة من يجد في وضوح الموقف الأميركي وحزمه نوعاً من الجدية والحرص على بناء أداة سياسية وعسكرية للمعارضة السورية قادرة على تحمل المسؤولية وقيادة مرحلة انتقالية تحفظ وحدة البلاد ومؤسسات الدولة من جهة وتوفر أفضل الضمانات لحقوق الأقليات في مجتمع تعددي كالمجتمع السوري من جهة أخرى، ويمكن الاستناد إليها لمنع انفلات الصراعات وخروجها عن السيطرة وانتقالها إلى بلدان الجوار وما قد تتركه من آثار سلبية على استقرار المنطقة وعلى مصالح الحليف الإسرائيلي وأمنه. وربما لا يخطئ من يربط الدعوة بتوازنات مستجدة على الأرض بدأت تميل نسبياً لصالح المعارضة، وبرؤية أميركية تعتبر أن أيام النظام السوري باتت معدودة ويجب المسارعة في خطوة استباقية لإعادة تشكيل رأس معارض يعيد توزيع الحصص والأوزان، وغالباً على حساب الوزن التركي الذي كانت له الريادة في احتضان مؤتمرات المعارضة والتفاعل معها، بحيث تحظى واشنطن بمزيد من النفوذ والتأثير في حال حصول انهيار دراماتيكي ومفاجئ للنظام. كما يصيب من يجد في الدعوة ورقة ضغط وابتزاز، مرة على موسكو لتعزيز الموقف الأميركي في مفاوضات يقال إنها لم تنقطع بين الطرفين لإيجاد تسوية مرضية لهما ومقبولة من الأطراف السورية، ومرة على المجلس الوطني نفسه قبل مؤتمره النوعي الذي عقد في الدوحة وعنوانه إعادة الهيكلة وتوسيع صفوفه، على أمل أن يكتسب هذا العنوان طابعاً جدياً ومثمراً. ثم هناك من يرجع الأمر إلى نية مسبقة لدى إدارة البيت الأبيض في خلق ذريعة قوية تحل مكان الذريعة القديمة المتمثلة بانشغالها بالانتخابات الرئاسية لتبرير استمرار سلبيتها وترددها. فالمبالغة اليوم في إظهار المشكلات المتعلقة بالمعارضة السورية ودفعها إلى الواجهة مع ترجيح عجز المعارضين بطينتهم الحالية عن توحيد صفوفهم وتجاوز مشكلاتهم، يساعدان واشنطن في تسويغ نزعة الانكماش والتردد والالتفاف على الضغوط المطالبة بدور نشط وحاسم في الشأن السوري، تالياً احتفاظها بنهج القيادة من الخلف في معالجة بؤر التوتر والذي استنزف خصومها وخفّف عنها كثيراً من الأعباء. وأياً تكن الأسباب التي تقف خلف دعوة كلينتون الصريحة إلى خلق إطار جديد للمعارضة السورية، فإن هذه الدعوة ما كانت لتأخذ هذا الوزن والاهتمام لولا فشل المجلس الوطني ومعه بقية أطراف المعارضة في التحول إلى واجهة حقيقية للثورة، بالتالي عجزه عن إنجاز أهم المهمات المنوطة به كمعارضة سياسية، في دعم الحراك الشعبي ومده بأسباب الصمود، وفي التفاعل مع المكون العسكري وتوحيد صفوفه وتصويب مساره، وفي كسب ثقة فئات المجتمع بالمجالدة وتشذيب الذات للظهور كطرف يكرس فكرة دولة المواطنة بمدنيتها وتعدديتها ويشكل قدوة في المثابرة والتضحية وتمثل القيم الديموقراطية. لم ترقَ المعارضة السورية، بعد أكثر من سنة ونصف سنة، إلى مستوى التحديات والمسؤوليات الملقاة على عاتقها، ولم تعد تقنع أحداً حجتها عما عانته طيلة عقود من جور النظام وظلمه وما خلفه من علل وأمراض بين صفوفها أو التذرع بأنها المرة الأولى في تاريخها التي تقف أمام امتحان حقيقي لدورها وقدرتها على قيادة حراك شعبي واسع يطالب بالتغيير الجذري. صحيح أن تأثير قوى المعارضة السورية في الحراك الثوري لا يزال محدوداً، جراء تباين الوعي واختلاف ظروف النشأة والتطور، وجراء القمع والتنكيل وإغلاق الحقل السياسي في صورة تامة ونجاح النظام في تسييد لغة العنف والسلاح، لتغدو صاحبة الكلمة المقررة، لكن الصحيح أيضاً أن ثمة تقصيراً ذاتياً وتضييع فرص عديدة لتطوير الأداء والحضور المعارض بالتناغم مع التطور المتصاعد للثورة. هو أمر مفهوم أن تتعذر الوحدة التنظيمية لقوى تختلف من حيث المنبت والتجربة والرؤى السياسية والإيديولوجية، ولكن أين العائق أمام إلحاح التنسيق وتوحيد إيقاع الممارسة والجهود من أجل تقديم ما يمكن لإغاثة المنكوبين، ومن ذا الذي يكف يد العمل المعارض الذي يضم قوى وشخصيات عركتها سنوات طويلة من مقارعة الاستبداد، في إبداع أشكال وطرائق للتواصل والتفاعل مع الحراك الشعبي، وتقديم المبادرات له وتغذيته بالخبرات السياسية والمعرفية؟ أحكمت حاجات الثورة وتداعياتها العربية والعالمية، الخناق على المعارضة السورية ووضعتها أمام اختيار حاسم، فإما التخبط في أزمة انحطاط تنتهي بها إلى الموت الرحيم، وإما عبور أزمة نمو وإزالة العوائق والمثالب التي تعيقها عن ممارسة دورها الحيوي.