«المجلس الوطني السوري» وكل أطياف المعارضة السورية التي تجتمع هذه الأيام في الدوحة أمام مفترق طرق مصيري. فإما أن تختار إعادة النظر في أسلوب عملها وخريطة تركيبتها وإما أن تواصل نهجها السابق الذي لم يثمر حتى الآن سوى مزيد من التشرذم والعجز عن مخاطبة العالم بلغة واحدة وعنوان واحد. ولا تعفيها هذه الردود الحادة على التصريح الأخير لوزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون من مسؤوليتها التاريخية عن المسار الذي ستسلكه الثورة السورية بعد عشرين شهراً من الدم والدمار. من حق «المجلس الوطني» بالتحديد أن يوجه نقداً لاذعاً إلى واشنطن. من حقه أن يأخذ عليها التلكؤ وغياب المبادرة بمساعدة الحراك الداخلي، وعدم الوقوف في وجه التصلب الروسي - الصيني والتدخل الإيراني الواسع إلى جانب النظام. من حقه أن يأخذ عليها عدم إمداد المجموعات المسلحة بالعتاد اللازم لمواجهة آلة القتل والتدمير. لكن هذه الردود قد تشكل قراءة مبتورة لموقف كلينتون. لا تريد هذه أن تريح ضميرها بالتعبير صراحة عن رأيها في «المجلس»، وهي تودع بعد أيام موقعها على رأس الديبلوماسية. بل ربما سعت إلى إرشاد المعارضة السورية إلى طريق جديد سيسمح ربما بتسهيل أي تحرك قد تقدم عليه الإدارة الجديدة لباراك أوباما إذا قيضت له العودة إلى البيت الأبيض بعد أيام. لا جدال في أن «المجلس الوطني» لا يتحمل وحده مسؤولية انتشار مجموعات «جهادية» متشددة بدأت تشوه صورة الحراك الداخلي بمقدار ما بدأت تزرع الشكوك والمخاوف في صفوف «أصدقاء سورية» من المرحلة المقبلة. في المقابل لا يمكن تحميل المجتمع الدولي مسؤولية انسداد الأفق في الأزمة السورية والمأزق الذي يعتريها. ولا حاجة إلى تعداد الأسباب التي حالت وتحول دون تدخل الولاياتالمتحدة وأوروبا عسكرياً لحسم القتال لمصلحة الحراك. فالأميركيون لم يتعافوا بعد من حرب العراق ولا يزالون يعانون في أفغانستان. ولا يبدي قادة البنتاغون تالياً استعداداً لفتح جبهة جديدة. كما أن التدخل في سورية محفوف بأخطار ليس أهمها تدخل إيران التي تستميت في التمسك بنظام الرئيس بشار الأسد. هنا ثمة بيئة عسكرية مختلفة، من الأسلحة الكيماوية إلى ترسانة الصواريخ إلى شبكة الرادارات. وليس سهلاً تحييد كل هذه الأهداف عن المواقع المدنية في أي تدخل لإقامة منطقة آمنة بعيدة من الغارات الجوية للنظام. فضلاً بالطبع عن تردد أوروبا ومخاوفها وعجزها الاقتصادي... وكلها عوامل سببت وتسبب في إطالة آلام السوريين. اجتماعات قطر هذا الأسبوع فرصة ليعيد «المجلس الوطني» النظر ليس في توسيع مكوناته وانضمام قوى أخرى إلى صفوفه. ما قالته كلينتون عن «المجلس» لا يختلف كثيراً عما يقوله بعض مكوناته. صحيح أنه يمثل شرائح واسعة من السوريين، وربما كان الأكثر تمثيلاً. لكن هذا يعني أن هناك قوى لا تزال خارج هذه التركيبة، فما الضير في قيام «مجلس موقت» تتمثل فيه قوى «الوطني» وقوى أخرى، خصوصاً أولئك الذين يتحركون على الأرض في الداخل السوري، فضلاً عن قوى غادرت النظام عندما سنحت لها الفرصة؟ أليست هذه هي الصيغة التي يروج لها رياض سيف وهو عضو في «الوطني»؟ لا جدال في أن تركيا كانت لها اليد الطولى في قيام «المجلس الوطني» ورعايته، إلى جانب قطر التي تبدو أكثر داعميه مادياً وفق ما دلت أرقام موازنته المنشورة أخيراً. ولا جدال في أن هذه الرعاية راعت «الإخوان» أكبر المجموعات في داخله، لكنها في المقابل تركت حساسية لدى قوى أخرى داخله وخارجه. وقد تكون الصيغة التي حملها رياض سيف إلى لقاء عمان قبل يومين، وحملها قبل ذلك إلى واشنطن ولم تغب عنه باريس وعواصم أخرى، فرصة لقيام مجلس موقت يمثل نصفه أهل الخارج وعلى رأسهم «الوطني» والنصف الآخر يمثل قوى الحراك الداخلي. صيغة إذا نجحت ستساعد بالتأكيد «أصدقاء سورية» وعلى رأسهم الإدارة الأميركية الجديدة على الاعتراف بالمجلس الجديد «ممثلاُ وحيداً». وهو ما يفتح الطريق لمحاصرة النظام وبعثاته الديبلوماسية في الخارج. ويدفع المجموعات المسلحة إلى توحيد قياداتها ومرجعياتها بعيداً من «القوى الجهادية»، لتكون مسؤولة عن أي سلاح قد يمدها به الخارج من أجل كسر هذا التوازن القائم حالياً. مثل هذه الخطوات سيساعد حتماً في تغيير مسار الحرب خصوصاً في شمال البلاد وشرقها. ويسهل قيام مناطق آمنة ينتقل إليها المجلس الموقت الذي يتردد أنه قد يضم خمسين شخصية: 15 منها لقوى الحراك الميداني، و15 ل «المجلس الوطني» و20 لقوى وشخصيات معارضة في الداخل والخارج. يمكن قطر التي لم تتوان عن دعم «المجلس الوطني» أن تدفع باتجاه إنجاح الصيغة التي يحملها رياض سيف، إذا كانت باتت على اقتناع بأن التجربة الماضية لم تحقق المطلوب. ولا يبقى أمام تركيا التي رعت طويلاً التركيبة الحالية ل «الوطني» سوى إعادة النظر في موقفها، خصوصاً أن الأشهر الطويلة أثبتت أن المجلس القائم لم يستطع جذب كثير من القوى والشخصيات والمجموعات التي لا تروق لها سيطرة الإسلاميين على تركيبته. كما أن تداعيات الأزمة السورية بدأت تلقي بظلالها وتداعياتها الثقيلة على الداخل التركي. وإضافة إلى التحرشات شبه اليومية على حدودها، عادت قضية «حزب العمال الكردستاني» تفرض نفسها على حكومة رجب طيب أردوغان. وإذا كانت نار الحدود ومشاكل اللاجئين السوريين تجد لها مخارج، فإن القضية الكردية تشكل التحدي الأكبر لحزب العدالة والتنمية. وليس سهلاً أن تجد أنقرة نفسها تلجأ إلى تعزيز علاقاتها مع كردستان العراق، بعدما أقفلت في وجهها أبواب دمشق وبغداد. لكن الذهاب بعيداً نحو أربيل يبعدها أكثر عن حكومة نوري المالكي ويدفع هذه أكثر فأكثر نحو أحضان إيران. كما أن تعزيز العلاقات مع كردستان لا يقوي شوكة كرد العراق فحسب، بل ينعش آمالاً لم تكن يوماً دفينة لدى الكرد في تركيا وسورية أيضاً، لتراودهم نزعة الاستقلال وإن بحدوده الدنيا. وهو ما يهدد أحد أكبر الثوابت في السياسة التركية. مثل هذه الحسابات الدقيقة يجب أن تشكل هاجساً لأنقرة لتمارس هي الأخرى دورها في دفع قوى «المجلس الوطني السوري»، ولا سيما منها «الإخوان» غير البعيدين عما يروج له رياض سيف، إلى التوافق على صيغة جامعة لكل معارضي نظام الأسد. ولا شك في أن أردوغان، مهما بلغت انتقاداته لإدارة أوباما وعدم مبادرتها حيال الأزمة السورية، يشارك واشنطن مخاوفها من تنامي ظاهرة التطرف في الحراك السوري. ويشاركها في الخوف الكبير من انهيار الدولة السورية وما يستتبع ذلك من انهيار المؤسسات وعلى رأسها العسكرية والأمنية، وانتشار السلاح في أيدي مجموعات لا سلطة لأحد عليها. إن تصريحات هيلاري كلينتون تفترض قراءة أخرى، بعيداً من مسؤولية واشنطن والمجتمع الدولي عن التخاذل في دعم الحراك السوري. فالإدارة الأميركية لا يمكنها بعد الانتخابات الرئاسية مواصلة «النأي بالنفس» أو الاختباء وراء الفيتو الروسي - الصيني. لن تبدل موقفها الرافض التدخل العسكري، لكن دعوة وزيرة الخارجية إلى لم شمل كل القوى المعارضة ترسم طريقاً يؤدي إلى قيام «عنوان» واحد لجميع خصوم النظام. لعل ذلك يساهم في تبديد المخاوف من البديل المحتمل ويحدد بوضوح الجهة المسؤولة عن تلقي الدعم المالي والعسكري لاحقاً بما يقلب المعادلة القائمة التي تتيح للنظام السيطرة على الميدان عبر السيطرة على سماء البلاد. تحرص واشنطن والعواصم الأوروبية الفاعلة على عدم تجاوز مجلس الأمن، لأسباب كثيرة تتعلق بحسابات ومصالح دولية لها علاقة بأقاليم أخرى وتفترض حداً أدنى من التفاهم بين الكبار. لذلك ليس أمام السوريين سوى رفع مظلة واحدة لكل أطياف المعارضة السياسية والعسكرية. وحدها هذه يمكنها أن تفرض واقعاً جديداً لا يضعف الموقف الروسي ويتجاوزه فحسب، بل يحرج المختبئين وراء ذرائع وحجج على رأسها تشتت المعارضة، ويفتح الباب أمام مساعدات تمهد تدريجاً لكسر ميزان القوى الداخلي على أرض المعركة. وبما أن كل أطياف المعارضة يجمع بينها الرفض الصارم لأي حوار مع النظام والإصرار على رحيله، ألا يهون عليها تجاوز كل الاعتبارات الأخرى وملاقاة كلينتون إلى منتصف الطريق فلا تعود ثمة حاجة إلى سلوك طريق بات معروفاً أن موسكو تقفله لأسباب عدة على رأسها عدم تكريس مبدأ تدخل المؤسسات الدولية لتغيير الأنظمة؟ إن اجتماعات الدوحة هذا الأسبوع توفر فرصة ثمينة وربما أخيرة لتغيير مسار الأزمة السورية وقلب المعادلات التي حكمتها حتى الآن، فهل تترفع جميع المعارضات عن حساباتها الخاصة والضيقة لمصلحة الحراك والحراك وحده؟