لم يكن هناك الكثير من المحاولات النقدية لكتابة أو مراجعة تاريخ الفن التشكيلي المعاصر في العالم العربي. حاول بعض الكتاب أن يُقيم بطريقة ارشيفية ما جرى في بلده من تجارب إبداعية في مجال التصوير والنحت، غير أن تلك المحاولات لم تتخط عتبة السياق التجميعي، الذي لم يخل من عبث في المعلومة التاريخية، كان مصدره الانجرار وراء نزعة انتقائية اعتبرها من قام بها ضرورية في سياق سلوك نقدي صارم، كان في حقيقته تجسيداً لمزاج شخصي. الامر الذي وضعنا أمام مدونات ناقصة لم يكن في إمكانها أن تقول حقيقة ما جرى كاملة، حتى ضمن حدود البلد الواحد. وهو ما أنعكس سلباً على كل محاولة تهدف إلى دراسة وتقييم تاريخ الفن التشيكلي في العالم العربي. فمن شأن المعلومة الناقصة أن تجرنا إلى اجراء مقاربات ومقارنات قد لا تكون صحيحة أو أنها تدفع بنا في اتجاه تبني مفاهيم تبسيطية. كنا نجد أنفسنا دائماً أمام شرخ تاريخي تسبقه وجهة نظر وتليه وجهة نظر أخرى. وما بين وجهتى نظر متناقضتين صار علينا أن نمشي مسافة من الإحباط والحذر النظري. كان هناك تسجيل لوقائع جرت علانية على الأرض، كما فعل جبرا ابراهيم جبرا حين حاول أن يؤرخ لبدايات الفن التشكيلي في العراق (بعد الحرب العالمية الأولى) وخصوصاً في كتابه «جذور الفن»، غير أن الوقائع المعلنة بالنسبة لتاريخ الفن قد لا تشكل إلا جزءاً من ذلك التاريخ الذي يبقى جزء منه كامناً. بالنسبة لجبرا فقد كان هناك أب واحد للحداثة، هو جواد سليم. وهو ما جرى اعتماده حقيقة مطلقة من قبل كل من كتبوا عن تاريخ الحداثة الفنية في العراق. غير أنه تبين في ما بعد أن من كتب بيان جماعة بغداد للفن الحديث وهي الجماعة التي تزعمها جواد بنفسه، كان شاكر حسن آل سعيد وليس جواد. فهل كتب آل سعيد ذلك البيان بإيحاء مباشر من جواد أم أنه صاغ أفكاره الشخصية على هيأة بيان قام جواد بتبنيه؟ لم يقل جبرا في حياته كلمة الفصل في شأن هذه المعلومة، التي لا بد أن يسبب التعرف على خبايا تفاصيلها نوعاً من الخلخلة في المتن التاريخي الذي تم اعتماده والنظر من خلاله إلى سياق تطور التفكير في الفن. وإذا ما كان الكثير من كتّاب تاريخ الفن العربي المعاصر قد تبنى وجهة نظر جبرا في وقائع الحداثة الفنية في العراق، كونه واحداً من أهم المشاركين فيها والتي أتضح في ما بعد أنها لم تكن تجسد الحقيقة كلها، فهذا يعني أن كل محاولة للنظر إلى تاريخ الحداثة في البلدان العربية الأخرى من خلال العودة إلى ما كتبه شهود عيان ستكون محلاً للشك، أو على الإقل للمراجعة النقدية، لا من جهة صدقيتها (جبرا لم يكن كاذباً، كان صاحب وجهة نظر) بل من جهة قدرتها على التعبير عن تنوع القوى الثقافية التي كانت تقف وراء تغيير التاريخ الفني واعادة تركيبه. لذلك فان تاريخ الفن الحديث في العالم العربي إذا ما كُتب وفق اسلوب التجميع الذي يشبه إلى حد كبير الطريقة البدائية التي يعتمدها بعض الكتّاب في تجميع الحكايات الشفاهية من ألسن القرويين والبدو فانه لن يُكتب إلا وفق سياق يسمح بوجود الكثير من النقص. في هذه الحالة كيف يمكن للباحثين إذن أن يدرسوا الفن العربي المعاصر؟ فن لم يكتب تاريخه بعد، تبدو دراسته أشبه بارتياد البحر بقوارب مثقوبة. وهذا ما يجري دائماً. فعن طريق المعلومة غير المؤكدة تسللت الكثير من الأوهام إلى قناعاتنا، بحيث صارت وجهات النظر تزيح الحقائق لتحل محلها. ولقد كنت آمل أن يقوم متحف الفن العربي الحديث في الدوحة أن يأخذ على عاتقه مهمة دعم ورعاية البحث التاريخي في مجال الفنون العربية المعاصرة، خصوصاً وأن مقتنياته هي ثروة مادية لا يُستهان بها على مستوى تأطير النتاج الفني العربي المعاصر تاريخياً. تلك المقتنيات تقدم صورة واضحة عما شهده الفن العربي المعاصر طوال مئة سنة من التحولات الأسلوبية والفكرية والتقنية. ولكن تلك المؤسسة (المتحف) على رغم مرور سنتين على بدء ظهورها العلني لم تبد أي اهتمام ملحوظ بهذا الجانب. بل انصب اهتمامها على اقامة معارض لفنانين أجانب. وهو أمر مستغرب لا يقع ضمن اختصاصها. كم كان حرياً بتلك المؤسسة أن تخصص منحاً، يتفرغ من خلالها الباحثون لدراسة أجزاء من التاريخ الفني لمنطقة لم يتأخر فنانوها كثيراً عن المساهمة في إثراء الفن العالمي بتجاربهم. هل تدرس كليات ومعاهد الفن في العالم العربي مادة بعنوان «تاريخ الفن العربي المعاصر»؟ أشكك في ذلك رغم ضرورة تلك المادة وغناها وقيمتها على مستوى تمكين الطلبة من النظر باحترام إلى مساهمة أوطانهم في هذا النوع النبيل من الحراك الحضاري. فذلك التاريخ لم يُكتب بعد، وإن كُتب فانه لم يُكتب إلا مجتزءاً وبالطريقة الهشة التي تقدم وجهات النظر الشخصية على الحقيقة التي هي مصفاة للوقائع المتقاطعة والمتداخلة. وكما أرى فإن تأخرنا في هذا الجانب سينعكس سلباً على قدرتنا على الحفاظ على تراثنا الفني المعاصر. هل علينا أن ننتظر يداً أجنبية تمتد إلى ذلك التراث لتعيد تصفحه من أجل أن تسهل قراءته كما حدث مع تراثنا القديم؟