تتردد في أوساط المحللين التونسيين فكرة مفادها أن الإسلاميين المحليين نجحوا في تحويل الأنظار عن النموذج السوداني، الذي شكل قدوتهم بصفته أول تجربة للإسلاميين في الحكم، إلى النموذج التركي الذي بدا قريباً من الأفكار التي طرحوها في سنوات المنفى، وبخاصة عن ضرورة المواءمة بين الشريعة والديموقراطية. ولو حاولنا استعراض أطروحات الإسلاميين التونسيين عن التقريب بين المبادئ الكونية ومرتكزات الشريعة لتعذر حصرها، لكن بين الكلام المُرسل وممارسة الحكم مسافة كبيرة تملأها الآن سنة من إدارة شؤون البلد، على نحو يدل على وجود بوصلة واضحة تهتدي بها حكومة «الترويكا» التي تقودها حركة «النهضة». وبدا من خلال الأدبيات التي رسخها قياديو الحركة، والتي صدقها بعض المراقبين الغربيين، أن الحركة التونسية تقتدي بتجربة «حزب العدالة والتنمية» التركي. لكن، سرعان ما تكشفت فوارق جوهرية جعلت الأتراك أنفسهم ينأون بتجربتهم عما يجري في بلاد الياسمين. ويمكن إجمال الفوارق بين الحزبين في ثلاث مسائل هي التي تجعل من «العدالة والتنمية» حزباً مدنياً في نظام ديموقراطي، و «النهضة» حزباً أصولياً في نظام مفتوح على احتمالات عدة، خصوصاً أن كتابة الدستور التونسي لم تُستكمل بعدُ. ثلاثة فوارق الفارق الأول يتعلق بالدولة الدينية، فالإسلاميون الأتراك حسموا هذه المسألة، وأثبتت تجربتهم في الحكم أن مدنية الدولة تقع في قلب قناعاتهم الفكرية فهي ليست مناورة تكتيكية، إذ إنهم لا يمارسون التعبئة السياسية في المساجد ولا يستخدمون رجال الدين (الحقيقيون والمُقنعون) لحشد الأنصار. صحيح أن الجناح المتشدد في «النهضة» قبِل لدى مناقشة توطئة الدستور بمفهوم الدولة المدنية، لكنه وضعها في مقابل الدولة العسكرية فقط. وما زالت أدبيات قادة هذا الجناح تدعو في خطب الجمعة والمقابلات الصحافية إلى إقامة دولة دينية. ويتعلق الفارق الثاني بالموقف من التيارات السلفية، ففيما قطع «العدالة والتنمية» معها سياسياً وفكرياً حتى أنه كرس المصالحة مع الكمالية (الأتاتوركية)، لاحظ المراقبون وقوع «النهضة» تدريجاً أسيرة التيارات السلفية، ما أدى إلى خصومات لا تنتهي مع حلفائها في «الترويكا». ويُرجح متابعون للتجربة الانتقالية في تونس أن السلفيين هم أعضاء «النهضة» وقواعدها، وليسوا جسماً خارجاً عنها، فعندما أرادت الحركة لجم هجماتهم على المجتمع المدني توجهت في اجتماعات مجلس الشورى إلى عضويها القياديين صادق شورو (الرئيس السابق للحركة) وحبيب اللوز طالبة منهما «ضبط الشباب». ويكفي أن نلحظ استعراض القوة الذي قام به سلفيون في مدينة القيروان قدّر عددهم بما بين خمسة آلاف وسبعة آلاف عنصر، لكي ندرك أن هؤلاء ليسوا غرباء عن «النهضة» لأن أعداد السلفيين الذين سُجنوا في عهد الرئيس السابق بن علي لم تتجاوز 1400 عنصر. واستطاع الجنرال بن علي أن يضع يده بواسطة أجهزة أمنه القاسية على جميع من انتمى للسلفية أو حتى فكر بالانتماء إليها. من أين جاء هؤلاء إذاً؟ لم يأتوا فقط من أفغانستان وباكستان. «إنهم أبناؤنا» قال عنهم الغنوشي في مناسبات عدة، مُبدياً إعجابه بهم كونهم يُذكرونه بشبابه. وكان لافتاً أنه بعدما حمل عليهم في أعقاب «غزوة» السفارة الأميركية يوم 14 أيلول (سبتمبر) الماضي، عاد واعتذر منهم علناً. وكان لافتاً أيضاً أن وزارة الداخلية التي يقودها الوجه النهضوي البارز علي العريض لم تحرك ساكناً بعد سلسلة الاعتداءات التي نفذها سلفيون في باجة وجندوبة وسيدي بوزيد ومنوبة وتونس ومدن عدة، لا بل لم تعتقل زعيم السلفيين سيف الله بن حسين في أعقاب اقتحام السفارة والمدرسة الأميركيتين. وكان ألف عنصر من الشرطة طوقوا المسجد الذي تجمع فيه أنصار بن حسين ليخطب فيهم ثم أتت توجيهات من وزارة الداخلية بفك الحصار والسماح له بالانصراف. أكثر من ذلك حذر المدير العام للأمن الوطني محمد نبيل عبيد من استمرار التغاضي عمن ارتكبوا جرائم حق عام في إشارة إلى السلفيين، وخصوصاً منهم المرتبطين بتنظيم «القاعدة» فأعفي من مهامه وجيء بمدير عام جديد في مكانه كان أحيل على المعاش منذ نحو عشر سنوات. استراتيجية التمكين أما الفارق الثالث مع «العدالة والتنمية» فيتمثل في العمل داخل الأجهزة الأمنية والعسكرية، إذ خلافاً للأتراك الذين التزموا ضوابط العمل السياسي في المربع القانوني الذي ارتضاه الجميع مضماراً وحيداً للسباق والمنافسات الانتخابية، كشف حوار رئيس «النهضة» مع الشباب السلفي أن اختراق المؤسستين العسكرية والأمنية خيار قائم في تونس. ولم تنف «النهضة» ما جاء في الشريط الذي نقل وقائع ذلك الحوار، وبخاصة التشديد على أن «الشرطة والجيش ليسوا في أيدينا بعدُ». ولكي يوضع هذا الكلام في سياقه ينبغي التذكير بقصة «النهضة» مع الجهاز السري الذي تم كشفه خلال كل ضربة أمنية تلقتها الحركة في ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته، وهو جهاز كان يضم ضباطاً وضباط صف من القوات المسلحة ومسؤولين من الأسلاك الأمنية المدنية. ومعروف أن جهاز «النهضة» خطط للانقلاب على الرئيس العجوز الحبيب بورقيبة يوم الثامن من تشرين الثاني (نوفمبر) 1987 (أي قبل سنتين من انقلاب الترابي – البشير في السودان). غير أن الجنرال بن علي سبقه بيوم واحد (عن دراية أم من باب الصدفة؟)، ثم رفع النقاب عن خطة «النهضة» واعتقل الضباط الضالعين فيها. وظل الهدف دائما هو السيطرة على مفاصل الدولة في إطار مفهوم «التمكين»، أي الإمساك بدفة الحكم. تلك هي أهم الفوارق الكبرى بين التجربتين الإسلاميتين في تركيا وتونس، هذا إذا ما غضضنا الطرف عن الحسابات السرية في بنك أهداف «النهضة»، فمن يضمن اليوم أن استراتيجية التمكين لا تتضمن فصلاً عن خيار بديل في حال أخفقت الحركة في البقاء على سدة الحكم في الانتخابات المقبلة؟ في المقابل يبدو النموذج السوداني هو الأقرب لمفاهيم «النهضة» لاعتبارات تاريخية واجتماعية وثقافية. فما إن انطلقت آلة القمع في ملاحقة «النهضويين» في تونس، مع بواكير العقد الأخير من القرن الماضي، حتى لجأ المئات منهم إلى الجزائر، التي كانت تمر في تجربة تعددية أطل منها صوت «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» بصفته الصوت الأعلى. وفي الوقت نفسه اتجه عدد كبير من طلاب «النهضة» إلى السودان حيث حصل على إقامات وسجل في جامعتها. وما إن حظر الجيش الجزائري جبهة «الإنقاذ» ودخل البلد في نفق الحرب الأهلية حتى انتقل باقي القياديين التونسيين بمن فيهم راشد الغنوشي من الجزائر إلى السودان. كان النظام الإسلامي في الخرطوم الوحيد الذي احتضن «النهضة» في ساعة الشدة وأعطى كوادرها سقفاً يقيها ضربات القمع، على رغم أن هذا الموقف كلف الخرطوم قطع علاقاتها الديبلوماسية مع تونس من جانب واحد. ويكفي إلقاء نظرة على السير الشخصية للمسؤولين الحاليين في حزب «النهضة» وحكومتها كي ندرك أن كثراً منهم مروا من الخرطوم في عنفوان التجربة الإسلامية التي قادها الثنائي الترابي – البشير وتأثروا بها. وتجد تلك التجربة صدى إيجابياً لها في مناقشات الإسلاميين التونسيين، وآخرها في المؤتمر العام التاسع ل «النهضة» الصيف الماضي. ومن خلال قراءة الصراعات التي تخوضها «النهضة» مع خصومها مذ استلمت الحكم ورصد التصريحات المتواترة عن ضرورة «أسلمة» المجتمع، نُدرك أن نموذج تطبيق الشريعة في السودان هو قدوتها وديدنها. وليس سراً أن الغنوشي لا يتوقف عن إبداء إعجابه بنظريات مفكر الحركة الإسلامية السودانية حسن الترابي، وهو ما كرره بوضوح في جلسات ندوة «الإسلاميون والثورات والعربية» في الدوحة في أيلول الماضي. وأتى شريط الفيديو الذي سجل الحوار الذي دار بين الغنوشي وقيادات السلفيين التونسيين ليؤكد أن خيار الانقلاب الإسلامي على الطريقة السودانية ليس مستبعداً، لا بل هو حض شباب السلفيين على التمهيد له «بنشر الدعوة في المساجد وتأسيس الجمعيات والإذاعات ودعوة الدعاة السلفيين إلى تونس». وفي هذا السياق يبدو قرار معاودة هيكلة «لجان حماية الثورة»، التي تشكلت في مدن تونس وقراها بعد إطاحة بن علي لحماية الأحياء والمرافق العامة، خطوة منسجمة مع استراتيجية التمكين. فهذه اللجان تشكلت في البدء من ممثلي تيارات مختلفة، فضلاً عن المواطنين غير المنتمين، إلا أن منتقدي «النهضة» يتهمونها باتخاذ معاودة الهيكلة غطاء لملء اللجان بأعضائها، وتحويل «اللجنة الوطنية لحماية الثورة» إلى ذراع سياسية لها. وبلغ هذا الجدل أشده مع إقدام عناصر من لجنة حماية الثورة في محافظة تطاوين على قتل مندوب حزب «نداء تونس» في المحافظة (وهو الحزب الغريم ل «النهضة»)، ما جعل بعض المعلقين يرى في لجان حماية الثورة نوعاً من «الشبيحة» التي تتولى تأديب الخصوم، بخاصة في أفق انتخابات العام المقبل. غير أن أخطر ما يتهدد التجربة الانتقالية اليافعة في تونس هو تعبير أحد الأطراف عن السعي لوضع اليد على مفاصل الدولة، والتي حددها رئيس «النهضة» في شكل صريح في شريط الفيديو بكونها الجيش والأمن والإعلام، وهو أمر كان حذر منه رئيس الجمهورية الموقت منصف المرزوقي في مؤتمر حزبه، عندما تحدث عن «تغول» النهضة وجنوحها للسيطرة على مؤسسات الدولة. فهل يمكن هذه التجربة الانتقالية نحو الديموقراطية أن تصل إلى مرساتها، إذا كان أحد أطرافها الرئيسة على غير قناعة بالمشروع الديموقراطي أو بمنهج التغيير المدني؟ * كاتب تونسي