انتهيت في الأسبوع الماضي إلى أن المصطلحات بنات بيئات، ولا بد حين نصطفي مصطلحا نشأ في بيئة مخالفة لبيئتنا: أن نوقن أن هذا المصطلح سوف يسعى من تلقاء نفسه إلى إيجاد بيئة ملائمة للبيئة التي نشأ فيها، وجعلت ذلك مبررا لما أدعو له من رفض مصطلح الحرية، وسوف أتحدث اليوم عن البديل لهذا المصطلح والذي أنا موقن أنه الأصل وليس هو البديل كما يتوهم آخرون، فالحق أن يقال إن الإسلام دين استعباد لله تعالى يخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. وقد يقول قائل: وما المانع أن نريد هذا الأمر باستخدامنا مصطلح الحرية؟ والجواب: أن المانع الحقيقي هو ما قدمته من أن المصطلحات بنات بيئات، فلا يمكن أبدا أن نأتي بمصطلح من بيئته ثم نضعه بيننا إلا واستطاع هذا المصطلح من تلقاء نفسه نسج بيئة مقاربة لبيئته التي نشأ فيها. وحين نرجع إلى واقع الحركة الفكرية اليوم بين الإسلاميين وأنفسهم، وبين الإسلاميين والليبراليين نجد أن مصطلح الحرية واضح الأثر فيما يشجر بينهم مشكلات، وإن لم يكن هو المؤثر الوحيد فيها إلا أن استئصاله من الساحة الفكرية لا شك أنه سيؤدي إلى نتائج محمودة لاسيما على وحدة الصف الإسلامي. كما أن مصطلح الاستعباد لله أكثر ألقاً وجاذبية للإسلام حين ندعو إليه غير أهله، كيف لا، وهو دعوة الله تعالى والاسم الذي ارتضاه لنا والعمل المحدد الذي خلقنا سبحانه وتعالى لأجله، المصطلح الذي حمله آباؤنا إلى مشارق الأرض ومغاربها ففتحوا به القلوب قبل البلدان، وتقدم به رِبعي بن عامر إلى الهرمزان في شموخ وإباء وهو يقول: إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. وقبل الحديث عن مدى شُغل العبد في الإسلام بمهام عبوديته وتناقض هذه المهام مع مصطلح الحرية الرائج الآن على حساب العبودية، استعرض بعض ما يُقَدَّمُ على أنه نماذج من الدعوة إلى الحرية في القرآن: فمن ذلك الآيات التي تُقَرِّرُ منح العبد خاصية المشيئة والإرادة، كقوله تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُر) وقوله سبحانه: (لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) وقوله (لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) وكقوله سبحانه: (مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) وغير ذلك من الآيات التي تثبت للعبد قدرة واختياراً، لا تخرج عن مشيئة الله وقدرته كما هو مذهب أهل السنة والجماعة. وحقيقة هذه الآيات أنها لا تساعد أبداً فيما يريدونه منها من إقرار مبدأ الحرية لأنها لا تُثبت وصف الكفر لمن اختار غير الإيمان وحسب، بل تُرتِّب على الاختيار الخاطئ عقابا أخرويا مغلظا. فالآية الأولى، وهي أكثر الآيات انتشاراً في هذا السياق قلَّما يتلونها كاملة لأن تلاوتها كاملة يضيع وجه الاستدلال منها: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) كما أن الآية ليس فيها نفي للعقوبة الدنيوية عمَّن انتقل إلى الكفر بعد الإسلام. أما قوله تعالى: (لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّر) فقد وقعت في سياق تفصيلي لحوار يدور بين أهل النار وأهل اليمين يدل على أن الكافرين لا يحاسبون على كفرهم فقط بل على تركهم لفرائض الإسلام: (لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ. كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ. إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِين. ِفِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ. عَنِ الْمُجْرِمِينَ. مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ. قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ. وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ. وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ. حَتَّىأَتَانَا الْيَقِينُ). "سورة المدثر". ولا أدري كيف يسوغ لمؤمن أن يزعم أن الإنسان حرٌ في اختياره وهو يؤمن أن العقاب الأخروي له بالمرصاد؟ وهناك من دعاة الحرية من فهم هذا التناقض فلجأ إلى ما هو أسوأ وهو الجنوح إلى وحدة الأديان وتسميتها كلها إسلاما، وجعل الفارق بينها هو مسألة الاختيار المحض وحسب. وقد يَجيب أحدهم بأن مرادنا أنه حر في اختياره في الدنيا، فلا إكراه في الدين كما قال تعالى : (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وهو جواب لم ينظر صاحبه فيه إلى تفسير السلف للآية وهو: أنها تكليف للمسلمين وذلك بنهيهم عن إكراه من تحت أيديهم من اليهود والنصارى على الإسلام، وليست آية تخيير بين الإسلام وغيره، كما أنها مُتقدمة على الآيات التي أمرت بقتال المشركين كافة وهو ما يُقوي القول بكونها خاصة فيمن تحت أيدي المسلمين من اليهود والنصارى. ولا يُمكن أن يستقيم مفهوم الحرية في الذهن مع القول بعقوبة المرتد بالقتل كما هو مجمع عليه بين العلماء العتبرين سواء أقلنا إن القتل عقوبة على الردة باعتبارها جُرماً، أو باعتبار هذه العقوبة صيانة للمجتمع الإسلامي من التفكك والانهيار العقدي كما يذهب إليه بعضهم، فعلى كلا الاعتبارين لا يستقيم أن نقول إن الإسلام أتى بالحرية وهو يحكم على من يختار غيره بالقتل، وهذه الإشكالية هي سبب ظهور القول بإنكار حد الردة بين عدد من المعاصرين، ومحاولاتهم تضعيف ما ورد فيه من الأحاديث أو تأويله.