وصل الوضع السياسي في الكويت إلى ذروة التأزم. هناك مسيرات، وصدام بين المتظاهرين والشرطة، وحالات توقيف لنواب من غالبية المجلس المنحلّ. المناخ السياسي دخل مرحلة الشحن، وتخلله تصعيد في التصريحات السياسية تحمل نبرة تحدٍ من كل الأطراف. الأزمة ليست جديدة، لكن الفصل الأخير منها انفتح على خلفية المرسوم الأميري الأخير بتعديل آلية التصويت في الانتخابات النيابية من أربعة أصوات لكل ناخب، إلى صوت واحد. وهو ما ترفضه المعارضة، أو غالبية المجلس المنحل، معتبرة إياه محاولة للإتيان بمجلس مريح للحكومة. تعتبر الحكومة أن المرسوم مخرج دستوري وعادل، وهي متمسكة بموقفها، وقررت أن تكون الانتخابات في بداية كانون الاول (ديسمبر) المقبل. وقد بدأ التسجيل بالفعل لمن يرغب في الترشح. كما أعلنت وزارة الداخلية أنها لن تسمح بالمسيرة التي تخطط المعارضة للقيام بها اليوم الأحد. وأعلنت المعارضة مقاطعتها الانتخابات حتى يتم التراجع عن المرسوم الأميري، ولم تكتف بذلك، بل اعتمدت ممارسة الضغط على الحكومة مستخدمة في ذلك قوة الشارع من خلال المسيرات الشعبية والندوات. واليوم الأحد هو موعد المسيرة الثانية تحت شعار «كرامة وطن 2». كانت هناك مسيرة «وطن 1» والتي يقال إنه خرج فيها حوالى 100 ألف شخص، وهذا رقم كبير بالنسبة الى الحجم السكاني للكويت الذي يزيد قليلاً على المليون نسمة. ستتقرر اليوم الأحد الوجهة التي ستتخذها الأزمة السياسية. هل تتمسك المعارضة بموقفها في الخروج بالمسيرة اليوم؟ أم تستقر على إلغائها أو تأجيلها؟ وهل تتراجع الحكومة عن المرسوم الأخير، وتقبل العودة إلى قانون الانتخابات القديم؟ كم سيكون حجم المشاركة في مسيرة اليوم؟ وكيف ستتعامل قوات الأمن معها؟ هي لحظة مشحونة بالفعل، ومفتوحة على أكثر من احتمال. هناك محاولات كثيرة للوصول إلى مخرج، لكن يبدو أن المخارج المقترحة تنطلق من ضرورة إلغاء المرسوم الأميري ابتداء، ما يعني أن الخطوة الأولى للحل يجب أن تبدأ بتنازل الحكومة. ليس هناك ما يؤشر إلى حدوث ذلك (أكتب صباح السبت)، واللافت في هذا السياق أن المنبر الديموقراطي دعا إلى إلغاء مسيرة اليوم، أو تأجيلها كبادرة حسن نية. يشير حجم الأزمة الحالية إلى أن النظام السياسي في الكويت يدلف إلى مرحلة جديدة. اعتادت التجربة الديموقراطية في هذا البلد الصغير على آلية التوافق، والتمسك به لتلافي الأزمات والانفجارات السياسية. التوافق داخل الأسرة الحاكمة، وبين الحكومة ومجلس الأمة، وبين الأسرة والقوى السياسية والتجارية في المجتمع. في الأزمة الحالية يبدو أن المشهد يتغير في شكل غير مسبوق. اللغة السياسية تغيرت، أصبحت تميل الى المواجهة والصدام، ورفع سقف المطالب. يشتكي كثير من الكويتيين من أن المجال يضيق أمام آلية التوافق، وأن الكويت مقبلة على مخاض لا أحد يعرف كيف سينتهي، ومع كل ذلك، فهناك إجماع على أسرة آل الصباح وحقها في الحكم. المطلوب كما يقال هو تغيير صيغة العلاقة مع الأسرة. هناك مطالب بضبط الفساد، وب «إمارة دستورية» وحكومة برلمانية، وعدم استخدام النفوذ للالتفاف على الدستور والقانون، وهي مطالب قد تبدو كبيرة، لكن عمر التجربة يمتد نصف قرن، وخلال هذه المدة الطويلة تجمدت التجربة، ثم دخلت القبيلة، فالإسلام السياسي، فالطائفة، كلاعبين سياسيين جدد، ومع كل ذلك تجمدت التنمية. تحولت الكويت من «نموذج للديموقراطية» عربياً وخليجياً، إلى نموذج لتزاوج نصف ديموقراطية مع جمود سياسي وتنموي. هل للأزمة السياسية في الكويت علاقة سببية ب «الربيع العربي»؟ أبداً، فهي تشبه مع الاختلافات المعتبرة أزمة البحرين. وفر الربيع لكلتيهما إطاراً سياسياً مختلفاً، وربما أنه أضاف لهما زخماً جديداً، لكنه لم يتسبب في حدوث أي منهما. في البحرين تعود جذور الأزمة إلى عقود قبل «الربيع العربي»، أما في الكويت فيمكن القول إن جمود التجربة وتكرار الأزمات في داخلها استمر حتى جاء الربيع، وبعد نصف قرن من الجمود تغيرت الكويت والمنطقة، وتغير العالم، وبالتالي حان وقت التغيير في التجربة وتطويرها وليس الانقلاب عليها، وهذا ما يبدو أن الكويتيين يرنون إليه. لم تبدأ الأزمة الحالية قبل أيام أو أسابيع. بل تعود الى العام 2006، عندما تزامن مرض الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد، وولي العهد الراحل الشيخ سعد العبدالله. وقد انفجرت الأزمة بعد وفاة الأمير، وعجز ولي العهد عن تسلم منصب الإمارة. عندها ارتسمت أزمة دستورية في صيغة سؤال: من يتسلم الإمارة، ولي العهد أم الشيخ صباح الأحمد الذي كان يأتي بعد الشيخ سعد في الترتيب السياسي؟ بوفاة الأمير، والعجز الصحي لولي العهد لم يكن هناك نص دستوري واضح يحكم مثل هذه الحال الاستثنائية. كان هناك صراع خفي داخل الأسرة وخارجها بين من يرى أحقية الشيخ سعد في تولي الإمارة على رغم مرضه، وبين من يرى أن المرض عائق دستوري، بخاصة أن شرط الوضع الصحي لولي العهد منصوص عليه في المادة الثامنة من الدستور. كان هناك شبه إجماع داخل مجلس الأمة من ناحية، وغالبية الأسرة الحاكمة، وبخاصة فرع آل جابر، على ضرورة تفادي تكرار المأزق الذي مرت به البلاد أثناء مرض الأمير وولي العهد، واختيار الشيخ سعد مع استفحال حالته الصحية يعني استمرار المأزق. كان المخرج في هذه الحالة إما أن يأتي من خلال تنازل الشيخ سعد عن حقه في الإمارة التي آلت إليه تلقائياً، أو أن يتم اللجوء إلى تفعيل المادة الثالثة من قانون توارث الإمارة تمهيداً لتنحيته، وإسناد الإمارة الى الشيخ صباح. وفي ضوء عدم تحقق إجماع داخل الأسرة الحاكمة لم يكن من الممكن تفعيل المادة الثالثة إلا من خلال مجلس الأمة، ما أعطى المجلس وللمرة الاولى وزناً سياسياً مهماً في حسم موضوع الإمارة. كان الموقف بحد ذاته سابقة، فلم يحدث من قبل أن حسم موضوع اختيار أمير الدولة خارج إجماع الأسرة الحاكمة، لكن أمام عدم تحقق الإجماع لم يعد هذا ممكناً، وذلك في ضوء التغير الديموغرافي داخل الأسرة لمصلحة فرع آل جابر، على حساب آل سالم الذي ينتمي إليه الشيخ سعد. وفي لحظة واحدة تداخلت حساسيات اجتماعية مع متطلبات دستورية، ومصالح وتوازنات داخل الأسرة الحاكمة وخارجها. وفي الأخير تطلب الأمر أن يدخل مجلس الأمة - وللمرة الاولى - طرفاً مباشراً في حسم موضوع الإمارة. دور المجلس في اختيار أمير الدولة منصوص عليه في الدستور، لكن التقليد السياسي منذ بداية التجربة الدستورية، ولأكثر من أربعة عقود حينها، جعل هذا الدور لا يتجاوز التصديق الشكلي على ما تجمع عليه الأسرة الحاكمة. ثم جاءت تلك الظروف المستجدة لتفتح المجال أمام المجلس لتولي مسؤولية حقيقية في حسم مسألة من يكون أمير الدولة. نتيجة لذلك يمكن القول إن الشيخ صباح هو أول أمير للكويت تُولد إمارته من داخل مجلس الأمة وليس من خارجه. بدا المجلس حينها وكأنه صانع الأمراء، الأمر الذي أكسبه قوة سياسية غير مسبوقة. وليس من المبالغة في شيء القول إنه منذ ذلك الحين كانت الأزمات تتصاعد بين الحكومة والأسرة الحاكمة من ناحية، ومجلس الأمة من ناحية أخرى، ودائماً حول الدوائر، والنظام الانتخابي، وتفسير مواد الدستور. وهو ما يعكس صراعاً سياسياً خفياً بين الطرفين: المجلس يحاول أن يبني على المكتسب السياسي الذي تحقق له عام 2006، والحكومة والأسرة من ناحيتها تحاول أن تضع حداً لهذا الطموح السياسي. هناك، كما أشرت، قوى تدفع بالعملية السياسية في اتجاه إمارة دستورية، وحكومة برلمانية منفصلة عن الأسرة الحاكمة، وكل ذلك يصب في مصلحة دعم سلطة مجلس الأمة. وفي هذا الإطار يأتي دور القوى والفعاليات السياسية: القبيلة والطائفة، والإسلام السياسي، والقوى المدنية والليبرالية. ما يحسب لقوى التغيير في الكويت أنها تريد أن يتم كل شيء داخل النظام السياسي القائم، وليس الانقلاب عليه، وبما أن الأمر كذلك، فلا بد من أن يأخذ التغيير شكل العملية التراكمية، وليس الفورة السياسية التي قد تشكل تهديداً للجميع. تمر المنطقة بمرحلة حرجة، وتحتاج إلى الكثير من الحكمة والذكاء السياسيين. يجب أن يكون هناك التقاء بين حكومة تقاوم التغيير، ومعارضة مندفعة في اتجاه التغيير. * كاتب وأكاديمي سعودي