فارقٌ زمنيّ كبير بين أول حفلة للفنانة العراقية الراحلة عفيفة أسكندر في مدينة أربيل (شمال) وكان عمرها آنذاك ثماني سنوات، وآخر مرة واجهت جمهورها في بغداد أواخر ثمانينات القرن العشرين. فارق زمني شاسع بين الظهور الأخير وبين رحيلها (توفيت أول من أمس) أمضته متنقلةً بين المستشفيات ومساكن رخيصة تسأل أن يزورها أحد ويمد لها يد العون. طلبت اسكندر قبل وفاتها أن تدفن في مقبرة الأرمن وسط العاصمة في جوار والدتها الموسيقية اليونانية ماريكا دمتري. والراحلة من مواليد سورية في العام 1921 من أب عراقي مسيحي وأم يونانية، وعاشت في بغداد، وحصلت على لقب «مونولوجست» من المجمع العربي الموسيقى لإجادتها ألوان غناء متعددة. ومنذ سنوات حرص صحافيون وفنانون على زيارتها، وسطرت وسائل الإعلام التقليدية قصصاً عن حاجتها الماسة إلى الرعاية وتوفير ضمان صحي لتفاقم حالتها، وكانت تعاني كسراً في الحوض وتقرحات جلدية، وظهور اصابات طفيلية في حنجرتها، إلى جانب نزف حاد في الأمعاء. وقدمت جهات ثقافية، مدنية وحكومية، مساعدات إلى الراحلة لكن غالبيتها لم يستمر، وظلت الراحلة تتنقل بين مستشفيي «مدينة الطب» و «الشيخ زايد» من دون أن يطرأ تحسن عليها. غنت أسكندر أكثر من 1000 أغنية، ويقول باحثون عراقيون إن سجلها الفني يحفل ب 1500 أغنية. ولحّنَ لها عباس جميل وأحمد الخليل ورضا علي وياسين الراوي. آخر حفلاتها كانت أواخر الثمانينات في نادي الصيد وسط بغداد قدمت فيه أغنيتها الشهيرة «يا يمه أنطيني الدربين»، وقيل إن صدام حسين كان حاضراً في الحفلة. كانت إسكندر، بحسب باحثين عراقيين، مطربة العصر الملكي، وضم جمهورها ملوكاً وقادة ورؤساء ووزراء. ويكتب مؤرخون عراقيون أن الملك فيصل الأول كان يحب غناءها، وحرص نوري السعيد على حضور حفلاتها على رغم ولعه ب «الجالغي» البغدادي. وبعد سقوط النظام الملكي وقيام الجمهورية في تموز (يوليو) 1958، ظلّت اسكندر حريصة على تقاليدها النخبوية الرفيعة، لكن زعيم ثورة الجمهورية عبدالكريم قاسم إنضم إلى قافلة محبيها، ولم يكن الحال كذلك مع عبدالسلام عارف الذي ضايقها كما صرحت هي قبل سنوات. ولم تغّنِ اسكندر عموماً لقادة ثورة تموز (يوليو)، سوى إنها غنّت لعيد الجيش وللملك فيصل الثاني. والحديث عن اسكندر في بغداد يرتبط بالبهاء الإجتماعي للعاصمة أربعينات القرن العشرين وخمسيناته، وكانت تحيي حفلات في نوادي الليل البغدادية، ونال احدها، وهو نادي «هلال» شهرته من الراحلة، وهو النادي الذي حمل اسم «ماجستيك» بعد الاحتلال البريطاني، ويقع في منطقة الميدان وسط بغداد. ولم يعد «الميدان» مثلما كان عليه أيام عفيفة، ولا نوادي بغداد تحفل بتلك الاجواء الساحرة. الامكنة التي حظيت بأغنياتها طواها الخراب والإهمال. رفدت اسكندر التاريخ الغنائي العراقي بأعمال فنية عديدة، ومنها «يا عاقد الحاجبين» و «يا سكري يا عسلي» و «اريد الله يبين حوبتي بيهم» و «نم وسادك صدري». ويقول الباحث والصحافي قحطان جاسم جواد إن طريقة عفيفة في الغناء تحمل قدرة فائقة على الانتقال بين الغناء البدوي والحضري باقتدار وتمكن كبيرين. ... كتب الشاعر عبد الزهرة زكي في صفحته على موقع «فايسبوك»: «خلّفت فناً تمتزج فيه خفة الكائن المشرق ومرح الروح المتخمة بالسعادة (...). الخلود فقط لما خلفته من أثر، ولنا أن نعيد اكتشافه».