تستجد في ذاكرة الواصل إلى مكةالمكرمة قبل فترة الحج أو أثناءها صورة مكة القديمة وطيف إبراهيم مع زوجه هاجر، وهما يمشيان خلف الكثبان من أرض فلسطين إلى مكة، في ذاك القفر الوحش الذي لا يقطنه بشر ولا يكون فيه نفر، وترتد إليه الذكرى فتكون الصورة متغبشة بين أنبياء آخرين قبل إبراهيم وبعده، مروراً على تلك الأرض وإن اختلفت الروايات وبقي تاريخ مكة المتجدد. وتقع مكةالمكرمة على السفوح الدُنيا بجبال السروات، وهي في الجهة الغربية من المملكة، وأهم سبل الوصول إليها من جهة الغرب محافظة جدة، وهي بوابتها البحرية والجوية، ومن الجنوب الشرقي تحيط بها مدينة الطائف فوق ربا جبال الحجاز على بعد 80 كيلومتراً، وإلى الشمال منها تقع المدينةالمنورة وتبعد قرابة 400 كيلومتر ويربطها بمكة طريق بري مزدوج. وترتفع مكةالمكرمة عن سطح البحر أكثر من 300 متر، أما من حيث خطوط الطول والعرض فتقع مكة عند ملتقى دائرة عرض2َ 22ْ شمالاً مع خط الطول 8َ 39. وذكر عضو هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة الباحث الدكتور يحيى الوزيري في بحث أجراه عبر الحاسب الآلي، أن مكةالمكرمة تقع بقلب دائرة تمر بأطراف جميع القارات، وهي مركز اليابسة كلها، ومن عجيب ما ذكره أن أبعد نقطة في العالم تبعد عن مكةالمكرمة 13253 كيلومتراً. وارتبطت هذه الميزة بظاهرة فلكية مهمة لا تكون إلا بها، وهي تعامد الشمس مرتين في العام على الكعبة، وذلك يومي 29 أيار (مايو) و16 تموز (يوليو)، تكون الشمس فيها عمودية تماماً وينعدم ظل الشاخص. ومناخ مكةالمكرمة تختلف فيه درجة الحرارة بين فصل وآخر، فقد تصل في الصيف إلى 48 درجة، في حين تنخفض في فصل الشتاء إلى 18 درجة، وذكر أحد المؤرخين تفصيلاً ظريفاً لمناخ مكة فقال: «هواؤها صحيح، وجوها طيب، وليلها أطيب من نهارها، لأنها تنزل في لياليها الرحمة». وحين العودة إلى البيت الحرام فإن أجلّ ما فيها هو البيت العظيم (الكعبة)، وهو في مقابل البيت المعمور في السماء الذي يقال له: الضراح، وهو على البيت الحرام لو سقط لسقط عليها، يعمره كل يوم 70 ألف ملك لم يروه قط، وإن في السماء السابعة حرماً على قدر حرم الكعبة كما جاء في الحديث الصحيح لابن عباس. وقد ذكرت الكثير من الروايات التاريخية أن الكعبة بنتها الملائكة وكانت تأتيها، وأن الأنبياء كلهم حجوا البيت بدءاً من آدم وانتهاء بموسى عليهما السلام، ويروى أن الكعبة التي بنتها الملائكة رفعت في الطوفان الذي أغرق الله به كفار قوم نوح، وصار موضعها أكمة حمراء. ولكن كل هذه روايات لم تثبت صحتها القطعية، ولكن الثابت بناء إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام الكعبة، وهو أمر مقطوع به، وعندما انتهى إبراهيم من البناء إلى موضع الحجر الأسود، قال لإسماعيل: «اذهب فآتني بحجر أضعه هنا؛ ليكون علماً للناس يبتدئون منه الطواف» وفي رواية: ليقتدي الناس به، فذهب إسماعيل إلى الوادي يطلب حجراً، فأتاه بحجر فلم يرضه، فذهب فطلب حجراً آخر، فجاء جبريل بالحجر الأسود، فجاء إسماعيل فوجد إبراهيم قد وضع الحجر في مكانه. ووضع جبريل الحجر في مكانه وبنى عليه، وهو حينئذٍ يتلألأ من شدة بياضه، فأضاء نوره شرقاً وغرباً ويمناً وشاماً، فكان نوره يضيء إلى منتهى أنصاب الحرم من كل ناحية من نواحي الحرم كما ذكرت بعض الروايات، وقيل: «إنما شدة سواده؛ لأنه أصابه الحريق مرة بعد مرة في الجاهلية والإسلام؛ فأما حريقه في الجاهلية فإنه ذهبت امرأة في زمن قريش تجمر الكعبة، فطارت شرارة من أستار الكعبة فأحرقت الكعبة فاحترق الركن الأسود واسودّ وتوهنت الكعبة، وكان هو الذي أهاج قريشاً على هدمها وبنائها، وأما حريقه في الإسلام ففي عصر ابن الزبير حاصره الحصين بن نمير الكندي، فاحترقت الكعبة بنيرانهم واحترق الحجر فتفلق ثلاث فلق حتى شعبه ابن الزبير بالفضة. وترى تاريخ مكة في معرض عمارة الحرمين الشريفين الذي أنشأته الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي عام 1420ه، ويتكون من سبع قاعات تشتمل على مجسّمين للحرمين الشريفين، وبعض المقتنيات المختلفة من المصاحف والمخطوطات والنقوش الكتابية والقطع الأثرية الثمينة، والمجسّمات المعمارية والصور الفوتوغرافية النادرة التي تحكي تطور عمارة الحرمين الشريفين على مر العصور، ومن أهم مقتنيات المعرض سلم باب الكعبة ومقصورة مقام إبراهيم وباب الكعبة المشرفة القديم وأبواب المسجد النبوي وعمود خشبي من أعمدة الكعبة يعود تاريخه لعمارة عبدالله بن الزبير للكعبة المشرفة في عام 65 ه. ويقع المعرض على طريق مكة - جدة القديم، بجوار مصنع كسوة الكعبة المشرفة، ويستقبل معرض الحرمين الشريفين زواره خلال شهر رمضان المبارك لعام 1428ه على فترتين صباحية من الساعة العاشرة صباحاً إلى الثالثة ظهراً، والفترة المسائية من الساعة التاسعة مساءً حتى الثانية صباحاً لإتاحة الفرصة للجميع لزيارته. إن تاريخ مكة مرتبط بحاضرها لا ينفك عنها إلا لتعاود التذكر أن هذه أرض الله، وبها بيته المكرم الذي يستقبل ملايين الزوار كل عام، فكم يا تُرى من زاروه طوال عمره الذي اختلفت الأقوال في بدايته من آدم وحتى إبراهيم؟ وتلك قصة ترويها الأيام.