فجأة، جاء اتصال من واشنطن الى الناشط «ابو ابراهيم الرقاوي» من الرقة، معقل تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) في شمال شرقي سورية. لم يعتد هذا الناشط على اتصالات من العاصمة الأميركية. اسمه مستعار. لكنه معروف بين الصحافيين، انه خبير بما يحصل على الأرض في الرقة. طلب منه المتصل «معلومات وإحداثيات» عن مواقع «داعش» في الرقة. الناشط الذي صار له منذ أكثر من سنة يكافح ضد «مذابح داعش» ويقود حملة «الرقة تذبح بصمت» وعاد من دول غربية الى الرقة للانضمام الى الحراك، رفض إعطاء معلومات، قائلاً: «القصف سيصيب أهلي وأصدقائي ومدينتي». ليس سراً ان الأميركيين بدأوا جمع المعلومات عن «داعش» لردم الفجوة الاستخبارية، لكن هذا الحادث يدل الى التحديات التي تواجه الحرب على الإرهاب ومواجهة «داعش» والحساسيات الطائفية والسياسية في سورية والإقليم. «داعش» بات منغمساً بأسلوبَيْ الترهيب والترغيب بين الناس في ارض تبلغ 10 في المئة من مساحة سورية البالغة 185 ألف كيلومتر مربع، وتضم، مع عمقها العراقي، نحو عشرة ملايين شخص وغنية بالموارد الاقتصادية من حيث النفط والغاز والطاقة والزراعة، اضافة الى 50 ألف مقاتل مدرب ومنظم ويحمل عقيدة ومعسكرات تدريب ومئات المدرعات والدبابات والمدافع الدقيقة التصويب التي حصل عليها من مخازن الحكومة العراقية. وتمتد مساحة «الدولة الاسلامية» من الحدود العراقية شرقاً الى بلدة مارع معقل «الجبهة الاسلامية» في ريف حلب قرب حدود العراق. وسيطرت على كامل محافظة الرقة وبصدد اقتحام مطار دير الزور العسكري المجاور مع حشد قوات باتجاه مطار كويرس العسكري في ريف حلب. آخر «الترهيب» كان قتل عشرات الجنود النظاميين بعد السيطرة على مطار الطبقة العسكري مع قطع الرؤوس لبعض الضباط. وآخر «الترغيب» كان إلغاء حدود سايكس- بيكو لدى اعلان «ولاية الفرات» التي ضمت مناطق على جانبي الحدود السورية- العراقية. عندما كان «الشخص» الأميركي يتحدث الى الناشط، ترددت أنباء بأن طائرات استطلاع أميركية تحلق فوق شمال شرقي سورية لجمع معلومات عن مواقع «داعش» في انتظار قرار الرئيس باراك اوباما ما إذا كان سيوجّه ضربات جوية الى معاقل «داعش». وكان الطيران السوري يقصف «بنك أهداف» للتنظيم في شمال شرقي البلاد بينها غارة قتلت قادة رئيسين في هرمية التنظيم في ريف دير الزور. فجأة أيضاً، ظهر وزير الخارجية السوري وليد المعلم في مؤتمر صحافي، عارضاً على الأميركيين «التنسيق» في ضرب «داعش»، بل انه طلب من الأميركيين ضرب مواقع التنظيم «لكن بالتنسيق» مع دمشق، مع الاستعداد ل «التنسيق مع الجميع»، فذلك «مرحب به، وأهلاً وسهلاً». اغلب الظن ان ظهور المعلم جاء بناء على نصيحة روسية بعد تلقيه اتصالاً من وزير الخارجية سيرغي لافروف، بضرورة «دعوة» الأميركيين لقصف «داعش» كما حصل عندما دعتهم الحكومة العراقية. فجأة، سقطت منظومة الخطاب السياسي الرسمي: النظام لم يعد قادراً وحده على محاربة الإرهاب، أميركا ليست جزءاً من «المؤامرة الكونية»، الضربات الجوية الأميركية يجب ان تتم ب «التنسيق معنا»، مع النظام. كان النظام خسر خلال فترة وجيزة ثلاثة مواقع رئيسة في شمال شرقي البلاد، هي «الفرقة 17» و «اللواء 93» ومطار الطبقة العسكري، ما أثار توتراً في أوساط النواة الصلبة العسكرية والسياسية والطائفية في معقل النظام. الأمور ليست أفضل حالاً في صف من المعارضة، اذ إن «الائتلاف الوطني السوري» المعارض سارع الى الطلب من المجتمع الدولي ان يعامل سورية مثلما يعامل العراق، ما يعني الطلب من اميركا توجيه ضربات جوية الى «داعش» على الأرض السورية. أغلب الظن، جاءت هذه الدعوة بناء على نصيحة من الدول الغربية و «اصدقاء الشعب السوري». بذلك، يتسابق ممثلو النظام والمعارضة في استجداء اميركا «الامبريالية» الى «العدوان» على سورية «لكن بالتنسيق معنا» من بوابة «داعش» وتحت مظلة «مكافحة الإرهاب». يتسابق كل منهما بناء على نصيحة حليفه الى توفير «شرعية سورية» لمفاعيل القرار 2170 الصادر بموجب الفصل السابع لخنق «داعش» و «جبهة النصرة». لم يكن الجواب العلني من واشنطن كما تشتهي دمشق ولا كما يشتهي «الائتلاف». علنياً، قالت ان طائراتها ستقوم بالاستطلاع «من دون إذن» النظام السوري. لكنها، وفق ما تردد من أنباء، تمرر عبر طرف ثالث، بغدادوموسكو وبرلين، معلومات أمنية عن مواقع «داعش». في الوقت نفسه صعدت برنامج تدريب «المعارضة المعتدلة» وطلبت من حلفائها العرب والغربيين في «أصدقاء سورية» تصعيد تدريب المعارضة وتسليحها. واضح ان واشنطن تعمل على ثلاثة مستويات: الأول، إجراء اتصالات لتشكيل حلف دولي- إقليمي لمكافحة الإرهاب الممثل ب «داعش»، يتوقع ان يستمر فترة طويلة وأن يكون بوابة اساسية في صوغ التوازنات الإقليمية والدولية والمحلية الراهنة يمكن بلورتها من الاقتراح الفرنسي بعقد مؤتمر بين 15 و20 ايلول (سبتمبر) الجاري وبعد قمة «حلف شمال الاطلسي» (ناتو) في ويلز واجتماع الجمعية العامة للامم المتحدة. الثاني، تمرير بعض الإشارات الى النظام من ان المستهدف ليس «إسقاط النظام» بل الدفع الى تسوية سياسية وتشكيل «حكومة انتقالية» او «حكومة وحدة وطنية» مع الحفاظ على قسم كبير من الجيش والأمن. الثالث، دعم «المعارضة المعتدلة» لمحاربة «داعش» على الأرض. الهدف النهائي لهذه الاستراتيجية، التي يعمل البيت الأبيض على صوغها داخلياً ايضاً، هو الدفع الى الحل السياسي. ووفق السفير الأميركي روبرت فورد فإن «إسقاط النظام لم يكن هدفنا من قبل، ولا ينبغي أن يكون الآن. ينبغي أن نسعى الى مساعدة المعارضة السورية لإلحاق أضرار كافية بالنظام، بحيث إنه، على الرغم من (الرئيس) بشار الأسد، سيوافق النظام أخيراً على التفاوض على حكومة جديدة تكون مهمتها الأولى محاربة الدولة الإسلامية وطردها أخيراً من سورية». عملياً، يريد النظام ان توكل اليه المهمة الجوية في محاربة «داعش». ثمن ذلك أقله «استعادة ما فقد من شرعية للنظام». تريد «المعارضة المعتدلة» ان تتكفل محاربة «داعش» على الأرض. ثمن ذلك أقله «نزع ما تبقى من شرعية للنظام». يتم الأمران بغطاء دولي. السياسة الأميركية مزدوجة. الهدف مشاركة من ساهم جواً في محاربة «داعش» ومن ساهم أرضاً التفاوض لاحقاً لتشكيل حكومة «انتقالية» او «وحدة وطنية». لذلك، لا ترى واشنطن مانعاً حالياً من ان «ينزف النظام أكثر»، ولا ترى مانعاً في اعادة صوغ المعارضة وتوسيع «الائتلاف» وقيام علاقة مباشرة مع الكتائب المسلحة «المعتدلة». ووفق المعلومات، فإن الأيام الأخيرة شهدت رفع وتيرة تسليح «المعتدلين» بأسلحة مضادة للدروع وذخيرة، خصوصاً لمنع تقدم «داعش» في مارع، معقل «الجبهة الإسلامية» في ريف حلب. كما ان واشنطن طلبت من دول عربية زيادة وتيرة تدريب المعارضين من حيث العدد والتأهيل. تعمل واشنطن بوحي من التجربة العراقية. كما كان دخول اميركا بحرب ضد «داعش» له ثمن، فإنها تحاول قول الأمر نفسه الى النظام والى حلفاء دمشق في طهرانوموسكو: مستعدون لمحاربة «داعش»، لكن ما هو الثمن؟ هنا دخلت على الخط مواقف دولية وإقليمية عدة، يشترط بعضها تطبيق التفسير الغربي لبيان جنيف بتشكيل «حكومة انتقالية بصلاحيات كاملة» وفي» ألاّ يكون الأسد شريكاً في محاربة الإرهاب»، الأمر الذي عبّر عنه الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند وشددت القمة الأوروبية عليه من ان النظام مسؤول عن زيادة التطرف، في حين تقول ايران ان الأسد انتُخِب لولاية ثالثة وبإمكانه ان «يقود الحرب على الارهاب وأن يقود حكومة وطنية»، بينما ترى موسكو ان «الحوار يجب ان يكون سورياً- سورياً وأن يحترم الجميع نتائج هذا الحوار». أما النظام، فلا يزال معتصماً ب «حكومة الحرب» التي أبقت على جميع وزراء السيادة بما فيها وزير الدفاع جاسم الفريج الذي تعرض لانتقادات من النواة الصلبة للنظام بعد تقدم «داعش». وحدود الاصلاح كانت ان يعين «المرشح الرئاسي» وزيراً للتنمية الادارية، الحقيبة التي شغلها بين 200 و2002. اوباما «حذر جداً». يجمع المعلومات ويستشير ويحيل على الكونغرس. تسعى باريس ولندن ودول إقليمية الى التأثير في قرار اوباما. كانت الأزمة السورية عادت الى الخلف في سلّم الأولويات. اعادها «داعش» من زاوية مكافحة الارهاب الى رأس الأولويات. بعض الدول يرى ان «داعش» فتح فرصة ونوافذ سياسية. النصائح التي قدمها مسؤولون اوروبيون رفيعو المستوى الى واشنطن: «يجب عدم استعجال قصف «داعش». لا بأس من مزيد من النزف. يقدم فرصة للبحث عن حل سياسي. يجب حرمان «داعش» من الرئتين السياسية والطائفية. نزع الغطاء السنّي عن التنظيم. ورفع اللحاف السياسي عنه. ألاّ يكون ناطقاً باسم السنّة السياسية ولا باسم المهمّشين بفعل الإقصاء في المنطقة. ويجب ألاّ تظهر الدول الغربية بأنها تقف ضد السنّة مرة اخرى منذ 11 ايلول 2001». ... يجب إقناع «ابو ابراهيم الرقاوي» وأمثاله بأن محاربة «داعش» وفظائعه وإرهابه في مصلحته. يجب حرمان التنظيم من البيئة الحاضنة و «السنّة السياسية». * صحافي سوري من أسرة «الحياة»