العلاقة بين الإعلام والثورة المصرية بالغة الثراء والتعقيد، فعلاقة التأثير المتبادل تبدو قوية وواضحة في كثير من المواقف، وملتبسة في بعض المواقف، وإجمالاً فإن تأثر الإعلام بالثورة أهم وأكبر من تأثير الإعلام في صنع الثورة، فقد ألغيت وزارة الإعلام، ويشهد الخطاب الإعلامي – القول والممارسة - بعد الثورة تحولات عميقة وواسعة تبشر بإنتاج وتداول خطاب جديد، ربما أكثر حرية ولكنه أكثر إذعاناً للسياسة ولرأس المال، وأكثر ابتعاداً عن القواعد المهنية ومواثيق الشرف الإعلامي. في عصر مبارك قدم الإعلام الخاص والحزبي وبعض الفضائيات العربية - على رغم كل القيود - خطابات نقدية ساعدت في التمهيد للثورة، ومكّن الإعلام الجديد وشبكات التواصل الاجتماعي الشباب من التواصل والحشد والتعبئة، في العالم الافتراضي والانتقال بقوة وحسم إلى أرض الواقع، الأمر الذي وسع من دائرة مستخدمي الإعلام الجديد ودعم مشروعيته ومنحه قوة تأثيرية كبيرة، خضعت لكثير من المبالغات، بصفته أداة رئيسة للثورة وللعمل السياسي والتأثير في الرأي العام. من هنا انشغل عدد من الوزارات والهيئات، وفي مقدمها المجلس العسكري، بإطلاق صفحات خاصة على «فايسبوك»، على رغم أن نسبة الأمية الأبجدية والأمية الرقمية تزيد عن 60 في المئة من السكان. المبالغة في دور وسائل الإعلام الجديد، تقابلها حالة من الاستهانة بالإعلام الحكومي، الذي يتكون من عشرات الصحف الحكومية، واتحاد للإذاعة والتلفزيون يبث 23 قناة تلفزيونية وعشرات من الإذاعات، ويعمل به 44 ألف موظف وإعلامي! وقد تحولت هذه الآلة العملاقة في عصر مبارك إلى وحش دعائي، يتلاعب بعقول وعواطف المصريين ويشن في شكل منتظم وممنهج حملات تشويه ضد حركات ورموز المعارضة. ومع بداية أحداث الثورة تجاهل الإعلام الحكومي ما يدور في أرض الواقع، وقام بتزييف الحقائق والتلاعب بوعي ومشاعر المواطنين، وكانت تغطية الإعلام الحكومي بحكم التعود تابعة لحركة النظام السياسي ومماثلة له في البطء والعجز، ومن ثم ذهب الخطاب الإعلامي الحكومي، كما ذهب النظام إلى إنكار حدوث الانتفاضة، وشيطنة الثوار، فهم عملاء ومأجورون! واقتصر الخطاب الإعلامي على إشارات محدودة للغاية وغير دقيقة عن تظاهر عشرات من الشباب، لذلك عندما سقط نظام مبارك جاء تحول الإعلام الحكومي إلى تأييد الثورة صادماً وفاقداً للصدقية، ومثيراً للشفقة المهنية والأخلاقية، فالإعلاميون أنفسهم الذين كانوا يهاجمون الثورة تحولوا خلال ساعات بعد سقوط نظام مبارك إلى مؤيدين للثورة بل ومنظّرين لمسيرتها وللمخاطر التي تهدد نجاحها. سقط الإعلام الحكومي في امتحان المهنية والصدقية أثناء الثورة، ولا يزال غير قادر على تصحيح صورته وصورة الإعلاميين العاملين فيه، واستعادة قدرته التأثيرية، فقد فتحت الثورة ملفات الفساد المالي والإداري في الإعلام الحكومي، والتفاوت الهائل في الأجور بين العاملين في الإعلام الحكومي (ديون الإذاعة والتلفزيون حوالى 2.1 بليون دولار) وهيمنة مباحث أمن الدولة والحزب «الوطني» على سياسات الإعلام واختيار العاملين وترقيتهم. من هنا أصاب الارتباك الإعلام الحكومي، إذ سقطت المنظومة «الأمن سياسية» التي كانت تحركه وتوجهه، وبدا عاجزاً على رغم تأييده الثورة عن فهم الأحداث وملاحقتها، فغالبية العاملين في الإعلام الحكومي تعودت على تلقي الأوامر والتعليمات وتنفيذها، ولم تتعلم أو تمارس على الإطلاق حرية العمل الإعلامي وضرورة الالتزام بالمهنية. وضاعفت من حال الارتباك قرارات خاطئة لحكومة الثورة أدت إلى تدهور الأداء الإعلامي نتيجة غياب الرؤية وعدم الرغبة والقدرة على إحداث تغيرات حقيقية، من هنا استمرت أخطاء الإعلام الحكومي، فبالغ أحياناً في استضافة تيارات سياسية على حساب تيارات أخرى، وتعجل في أحيان أخرى استعادة جماهيره فارتكب تجاوزات مهنية غير مقبولة وتقوم على المبالغة ونشر الشائعات، لكن يظل الخطأ الأكبر هو محاولته البحث عن سيد جديد ينافقه ويثبت له ولاءه، ووجد كثير من الإعلاميين هذا السيد في كيان المجلس العسكري ورئيسه المشير طنطاوي، لكن الرجل وللحقّ تجنب الظهور الإعلامي - حتى الآن - على رغم كثرة حفلات النفاق ومحاولات صناعة «الفرعون» في الإعلام الحكومي. في المقابل بدا الإعلام الخاص والحزبي في صورة المنتصر، فغالبية القنوات والصحف أيدت الثورة أو قدمت تغطية متوازنة في حدود ما سمحت به قيود الرقابة الأمنية، وثمة مؤشرات تؤكد تفوق الإعلام الخاص والحزبي على الإعلام الحكومي في ما يتعلق بالانتشار والتوزيع والدخل من الإعلانات، والأهم من ذلك في تغطيته الإعلامية الأقرب إلى التوازن. لكن غالبية المؤشرات المتداولة تفتقر إلى الدقة كما أنها تظل مؤشرات خادعة، فهي تقارن بين إعلام حكومي بيروقراطي – ثبت فشله - وإعلام خاص يبحث عن الربح ويعكس مصالح سياسية واقتصادية لعدد من كبار رجال الأعمال في مصر سواء في عصر مبارك أو الثورة. لذلك يتورط الإعلام الخاص في كثير من الممارسات غير المهنية والبعيدة تماماً عن مواثيق الشرف الإعلامي، علاوة على الإغراق في البرامج الحوارية «التوك شو» والفضائح السياسية التي لا تؤسس معرفة ووعياً سياسياً حقيقياً، الأمر الذي يحتم ضرورة البحث الجاد في واقع ومستقبل الإعلام المصري الحكومي والخاص والحزبي من منظور جديد يتماشى مع روح وأهداف ثورة 25 كانون الثاني (يناير). فمن غير المقبول أن يستمر الإعلام الحكومي تابعاً لسياسة الحكومة على حساب المصلحة العامة للمجتمع، ووفق قوانين قديمة صدرت في ظل نظام استبدادي، وقبل ظهور البث الفضائي والإنترنت. ومن غير المعقول أن تتبع القنوات الخاصة هيئة الاستثمار، وتعمل من دون قانون إعلامي، ومن دون مدونات سلوك وسياسات تحريرية معلنة، ومن دون مواثيق شرف. ومن الغريب أيضاً ألا تكون هناك نقابة أو نقابات مستقلة تدافع عن حرية ومصالح العاملين في القنوات الخاصة والعامة، ولا يمكن استمرار هذه الأوضاع في ظل عملية التحول الإعلامي، وإطلاق حرية إصدار الصحف والقنوات من دون الحصول على موافقات أمنية، وتكفي الإشارة هنا إلى انطلاق ثلاث قنوات فضائية وتوقع إطلاق 16 قناة جديدة – بعضها حزبي – وكثير من الصحف اليومية، ما يثير مخاوف متعددة في شأن شفافية التمويل، وحدة المنافسة الإعلامية واحتمال التورط في مزيد من الممارسات غير المهنية في محاولة لتحقيق الانتشار، علاوة على احتمال هيمنة الإعلانات على الإعلام في ظل تراجع الدخل من الإعلانات بعد الثورة حيث تراجع الإنفاق الإعلاني في الربع الأول من العام الحالي إلى 166 مليون دولار مقابل 340 مليون دولار في الربع الأول من عام 2010. لا بد من تغيير هذه الأوضاع، وأقترح أن تكون البداية من خلال: أولاً: فتح حوار مجتمعي لبحث أوضاع الإعلام والتوافق على مستقبل النظام الإعلامي في مرحلة التحول الديموقراطي، وبما يحقق حرية الإعلام العام والخاص، ويضمن الحقوق الإعلامية للمواطنين وفي مقدمها الحق في إنتاج الخطاب الإعلامي ومراقبته من خلال المجتمع المدني وبرلمان منتخب ونقابات إعلامية مستقلة. ويمكن الاتفاق على تشكيل مجلس أعلى للإعلام يتابع الأداء الإعلامي ويحقق في التجاوزات المهنية وانتهاكات مواثيق الشرف الإعلامي، والممارسات الاحتكارية، وتكون له سلطة إنزال العقوبات وفرض غرامات مالية في حال تكرار الانتهاكات. ثانياً: سرعة إنهاء تبعية الإعلام لكل من النظامين السياسي والاقتصادي بصرف النظر عن مستقبل كل منهما والتوجهات التي ستحكمهما بعد الثورة. وبحيث يكون للنظام الإعلامي استقلاليته التي تقوم على شفافية التمويل والفصل بين الملكية والإدارة واتباع أعلى مستويات المهنية والالتزام بمواثيق الشرف الإعلامي. ولا يعني ذلك إحداث نوع من الخصام أو الصراع بين النظام الإعلامي والنظام السياسي أو النظام الاقتصادي، ولكن المقصود فقط أن يكون لكل منها مجاله ودائرة عمله من دون علاقات تبعية أو إذعان، وبالتالي قد تظهر علاقات تعاون وتكامل أو صدام واختلاف بين النظام الإعلامي والنظامين السياسي والاقتصادي تقوم على أساس الحوار والتفاوض والتوافق أو الصراع السلمي. ثالثاً: إلغاء النصوص الخاصة بعلاقة مجلس الشورى بملكية وإدارة الصحف نيابة عن الشعب، وكذلك إلغاء اتحاد الإذاعة والتلفزيون، والمجلس الأعلى للصحافة، وإصدار مجموعة من القواعد والسياسات والتشريعات الجديدة تنص على حرية الإعلام ودوره كسلطة رابعة تراقب أداء السلطات الثلاث، وتؤكد حقوق الاتصال وحرية الوصول إلى المعلومات، وتضع قيوداً وآليات رقابية تمنع ظهور الاحتكارات الإعلامية، وتدخّل الإعلان في التحرير. ولا بد من الاعتراف بحق العاملين في القنوات الخاصة واتحاد الإذاعة والتلفزيون في تشكيل نقابات مستقلة تدافع عن مصالحهم، وتضع مواثيق شرف إعلامي ومدونات سلوك مهني. ولا بد أيضاً من إصدار قانون موحد للإعلام يشمل تنظيم حرية الصحافة والإذاعة والتلفزيون ووسائل الإعلام الجديد، فلا معنى للفصل بين وسائل الإعلام في ظل التكامل والتداخل بين وسائل الإعلام في القرن الواحد والعشرين. ولا معنى أيضاً لاستمرار العقوبات السالبة للحرية المفروضة على الصحافيين. رابعاً: تحويل المؤسسات الإعلامية التابعة للدولة إلى نمط حقيقي في الملكية والإدارة العامة، لا يجوز بيعها أو تمليكها للعاملين فيها، فهي مشروعات قومية وملكيتها عامة وتسعى للنفع العام. من هنا يجب أن تعبر عن كل مكونات المجتمع، وتياراته السياسية، وتحظى باستقلالية ومستوى رفيع من القواعد المهنية، وبحيث لا تصبح كما كان عليه الوضع في الأربعين سنة الأخيرة تابعة لتوجهات الحكومة والأجهزة الأمنية. من هنا أقترح قيام العاملين في كل مؤسسة إعلامية بانتخاب القيادات الإعلامية والإدارية، إضافة إلى نصف عدد أفراد مجلس الإدارة، وبحد أقصى لدورتين كل منهما ثلاث سنوات. بينما يختار مجلس الشعب النصف الثاني من مجلس الإدارة من بين أعضائه، وبحيث يتمثل فيه كل حزب من الأحزاب الممثلة في مجلس الشعب بعضو واحد، إضافة إلى عضو عن المستقلين. أي أن نصف مجلس الإدارة المنتحب من مجلس الشعب سيتحدد بعدد الأحزاب الممثلة في مجلس الشعب، على أساس أنه يفترض أن البرلمان، في حال انتخابه ديموقراطياً، يمثل المجتمع كله. أما مؤسسات الإعلام المملوكة لأشخاص أو شركات، فإن الجهات المالكة من حقها اختيار القيادات الإعلامية، على أن ينتخب العاملون نصف أعضاء مجلس الإدارة وتختار الجهات المالكة النصف الثاني. حيث ستتولى مجالس الإدارات رسم الاستراتيجية الإعلامية والسياسات العامة في كل مؤسسة إعلامية، وتخصيص الموارد وإنفاقها ومتابعة وتقويم الأداء وفق قوانين النشر والمواثيق الإعلامية وملاحظات أجهزة شعبية مستقلة لتدقيق الأداء والمتابعة. * كاتب مصري