عندما سأل الناقد المصري هاشم النحاس، المخرج الراحل صلاح أبو سيف، فيما كان يعمل معه على إعداد كتاب حوارات يتناول سينما ابو سيف ككل، عن فيلم «ريا وسكينة» هنا، عن «غرابة» ان يدخل الضابط أنور وجدي في معركة مع عضو عصابة «الأعور» (فريد شوقي)، ويخرج منها وليس على وجهه أو جسمه أو ثيابه أثر لهذه المعركة على رغم شراستها بينهما، وكذلك كانت حاله بعد معركة يخوضها مع اعضاء العصابة الأربعة عند نهاية الفيلم حيث، مرة أخرى، تظل ثيابه من دون اي تمزق، ولا يبدو على وجهه أو أي مكان من جسمه خدش، بل يظل محتفظاً بأناقته ووسامته، أجاب أبو سيف: «لأنه شخص قوي، ولأنني كنت أقدم بطلاً... لذا لم أهتم بمسألة الملابس». وما هذا الجواب سوى صورة لبعض ما كانت تفتقر إليه السينما المصرية، حتى حين يقوم بتحقيق أفلامها كبار مبدعيها. إنها مشكلة التفاصيل المغيّبة، مع ان التفاصيل تلعب في فن السينما دوراً أساسياً. مشكلة أساسية من مشاكل السينما، في ذلك الحين - ودعونا من الحين الذي نعيش فيه!-، كانت مشكلة التسرع من ناحية، والخضوع لرغبة النجوم في ان يظلوا على أناقتهم مهما كانت الظروف، من ناحية ثانية. ومن هنا ذلك التفاوت الكبير الذي نجده بين الرغبات الإبداعية معبراً عنها، مثلاً، في السيناريو الذي كتبه نجيب محفوظ لهذا الفيلم، وفي التجديدات الإخراجية والتعبيرية التي سعى صلاح أبو سيف الى إضفائها على الموضوع وعلى الفيلم بالتالي، وبين المتطلبات الإنتاجية، وخصوصاً مطلب إنجاز الفيلم بسرعة، ومطلب حضور نجم فيه، لأن الجمهور لن يشاهد فيلماً من دون نجوم. والحقيقة ان رغبة أبو سيف الأولى كانت ان يحقق هذا الفيلم من دون نجوم، مكتفياً فيه بحضور ممثلين أقوياء. وكان محفوظ كتب السيناريو، أصلاً، انطلاقاً من هذا التصور. لكن الإنتاج اصر على ان يكون أنور وجدي - نجم النجوم في ذلك الحين - بطلاً للفيلم، بل أكثر من هذا: أصر الإنتاج على ان يُرسم لأنور وجدي دور لم يكن له، اصلاً، وجود طاغ لا في السيناريو، ولا حتى في الحكاية الأصلية التي بُني عليها الفيلم. وهذا، طبعاً، لأن فيلم «ريا وسكينة» كانت له حكاية أصلية مستمدة من سجلات البوليس في مدينة الاسكندرية عند بدايات القرن العشرين. والحقيقة ان واحدة من النقاط المهمة في هذا الفيلم تكمن في كونه استُقي مباشرة من الواقع، ولم يكن هذا سائداً في السينما المصرية. إذ، حتى وإن كان نجيب محفوظ، الذي أدخله صلاح أبو سيف بنفسه عالم كتابة السيناريو، قد تعاون مع أبو سيف في كتابة عدد من الأفلام الواقعية قبل «ريا وسكينة»، وكذلك في إضفاء بعض ملامح الواقع على مواضيع بالكاد كانت تتحمل مثل هذا الأمر («مغامرات عنتر وعبلة» و «المنتقم»)، فإن اشتغال الكاتب الكبير والسينمائي المبدع في ذلك الحين، على أفلام تنتزع من ملفات الشرطة، أو من أخبار الصحف (كما بالنسبة الى «الوحش» أو «الفتوة». والعملان من إخراج أبو سيف وكان لمحفوظ لمساته فيهما)، كان أمراً نادر الحدوث، ومن هنا، كما أشرنا، تأتي أهمية هذا الفيلم الذي بقي علامة من علامات الواقعية في تاريخ السينما المصرية، على رغم - وليس بفضل - وجود أنور وجدي ودوره المفتعل وثيابه الأنيقة. والحقيقة أن صلاح أبو سيف يضعنا، في هذه المناسبة، على تماس أمر جديد في عالم الإعداد لفيلم سينمائي مصري في ذلك الحين (1953) حيث يقول انه، استعداداً لتصوير ذلك الفيلم، وبعد ان عهد بكتابة السيناريو الى نجيب محفوظ واطمأن الى ذلك، راح يحضر ملفات ويبحث عن وقائع لدى محفوظات البوليس، بل انه ذهب مراراً الى الاسكندرية اثناء التحضير، كي يتجول في الحي الذي عاشت فيه المرأتان المرعبتان واقترفتا جرائمهما، كما انه قابل كثراً من الذين عاصروهما وعرفوهما. ومن الذين قابلهم أشخاص تعرضت قريبات لهم لإجرام ريا وسكينة وما الى ذلك. إن هذا التدقيق في التحضير لرسم اجواء الفيلم، والذي يكاد يذكّر - مثلاً - بتدقيق إميل زولا، في التحضير لرواياته الواقعية الطبيعية، علماً أن المبدعين العربيين كانا معجبين بأدب زولا وأسلوبه (وهما كانا اقتبسا فيلم «لك يوم يا ظالم» قبل عملهما على ريا وسكينة ما يقول لنا الكثير حول جدية تعاملهما مع الفن السابع. ولكن بعد كل شيء من هما ريا وسكينة، في الواقع التاريخي؟ هما مكتهلتان، عاشتا في المدينة البحرية المصرية بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وهما إذ وجدتا ان الجريمة خير طريق وأسرع وسيلة الى الثراء، صارتا تخدعان نساء تلتقيانهن في الطريق، أو يدلّهن عليهن أعوان لهما، فتجذبانهن، بدعاوى مختلفة، حتى بيتهما، حيث يتم قتل النساء وسلبهن ما يحملن من مصاغ وأموال. طبعاً، نعرف ان هذا النوع من الجرائم يحدث كثيراً في مصر وغير مصر. لكن الذي جذب صلاح ابو سيف الى هذا الموضوع، كان البعد الاجتماعي والطبقي له، كما يبدو، حتى وإن كان الفيلم طلع من بين يديه في نهاية الأمر - وربما لأسباب رقابية - فيلماً عن ميتافيزيقا الشر، لا عن اجتماعيته. ذلك ان الخلاصة التي ينتهي فيها الفيلم، حسب ملاحظة لهاشم النحاس وافق عليها أبو سيف على مضض، هي ان الأختين الاسكندرانيتين، شريرتان بالفطرة، لا بفعل ضغوط المجتمع عليهما، ما يتناقض طبعاً مع الطابع «الاجتماعي» الذي يقول أبو سيف عادة، أنه اراد تبيانه. مهما يكن فإن الحكاية كما تسرد في الفيلم، لا تبدأ مع المجرمتين (اللتين يوجد قسم خاص بهما في متحف الشرطة المصرية في القلعة القاهرية)، بل مع الأجواء التي تسود الاسكندرية التي، على أية حال، بالكاد تبدو شبيهة بالاسكندرية، التي تحدث عنها الكتّاب والمؤرخون، وعن كونها مدينة تختلط فيها الجنسيات والأعراق واللغات عند بدايات القرن العشرين. فتلك الأجواء كانت محملة بأخبار، تتضخم أحياناً كالشائعات عن نساء يختفين فجأة ولا يتمكن أحد من معرفة أين ذهبن أو العثور عليهن. وهذا الجو يدفع إدارة الشرطة في المدينة الى تكليف الضابط أحمد بملاحقة القضية للكشف عن ألغازها. فيتنكر هذا في ثياب الصيادين، ويطلق على نفسه اسم دحروج، وينطلق متحرياً، حتى يبدأ بارتياد حانة يرتادها العاطلون والبحارة. في ذلك الحين يلتقي المدعو أمين، وهو يعمل في مجزرة في المدينة بغازية حسناء، سرعان ما يجتذبها الى بيت المرأتين ريا وسكينة، اللتين لا توحيان أول الأمر بأن ثمة أي غبار على مسلكهما أو عيشهما. ومنذ تلك اللحظة تختفي الغازية، فيثور اهتمام الضابط أحمد بهذا المنزل وبأمين في شكل خاص. ولاحقاً إذ يجتذب أمين، فتاتين، إحداهما ابنة صاحب المجزرة، وتكونان في رفقة الأخ الصغير لإحداهما، يدرك الأخ هذا ما تتعرض له الفتاتان فيهرب حتى يتمكن من إبلاغ الضابط بما يحدث، فيستدعي الضابط قوة بوليس تحاصر المكان وتشتبك مع حراسه والمرأتين في معركة، يُقتل فيها أمين، وتنقذ الفتاتان ويلقى القبض على القاتلتين. من الواضح هنا ان صلاح أبو سيف، وعلى رغم تمسكه بالواقعية، و «زياراته الى الاسكندرية للتحري عن خلفية الموضوع كله»، حول الحكاية من حكاية المجرمتين وضحاياهما، الى حكاية الضابط وبطولاته. غير ان هذا، ومهما كان من شأن إساءته الى الفيلم، يظل أمراً ثانوياً، إزاء ذلك المناخ الذي عرف ابو سيف كيف يرسمه في الفيلم، وإزاء ذلك التجديد الذي تمثل في التقاط الحكاية من الشارع لتحويلها فيلماً، ثم خاصة التجديد في مجال خلق سينما تستقي أحداثاً، مختلفة جذرياً عما كان سائداً في السينما المصرية في ذلك الحين. ولقد تضافر هذا التجديد، مع تقليدية الإنتاج وحضور نجوم في الفيلم، لا يقلون أهمية عن انور وجدي (برلنتي عبدالحميد وسميرة أحمد، وشكري سرحان الذي كان في بداياته الواعدة)، تضافر كل هذا لخلق عمل ناجح جماهيرياً. وانتقالي من الناحية الفنية، ولا سيما بالنسبة الى علاقة الجمهور في الفيلم، حيث حتى اليوم يمكن لكل من شاهد «ريا وسكينة» أو يشاهده، أن يؤكد ان حضور ممثلتين كبيرتين - هما نجمتان/ مضادتان على اية حال - هما نجمة ابراهيم وزوزو حمدي الحكيم، يبقى في الذاكرة، إذ تلعبان دور الأختين المجرمتين، أكثر بكثير من بقاء أنور وجدي فيها. وحين حقق صلاح ابو سيف هذا الفيلم، كان يعيش واحدة من أكثر مراحله السينمائية واقعية، المرحلة التي شهدت تحقيق «لك يوم يا ظالم» و «الأسطى حسن» و «الفتوة» و «الوحش» وخصوصاً «شباب امرأة»، وكلها افلام حُققت خلال الخمسينات من القرن العشرين.