ماعدا قصائد متفرّقة وعلى مدار أزمنة متباعدة، لم أكن قرأت مجموعة شعرية ألبانية حديثة كاملة لشاعر من ذلك البلد الذي عاش زماناً طويلاً وراء أسوار العزلة عن العالم الخارجي. إنها عزلة حرمتنا كقرَاء عرب من فرص التعرُف على ذلك الشعر الذي تنبت وروده في أوروبا، ويحمل في الوقت ذاته روح الشرق وحساسياته الفنية الطالعة من حياة «تشبهنا» وإن تكن تحمل بالتأكيد ملامحها وخصوصياتها. «فواصل للحذف»، مجموعة شعرية ألبانية للشاعر جيتون كلمندي نقلتها للعربية ياسمين العاني مع مقدمتين ضافيتين للناقد المصري شريف الجيار، والشاعرة المصرية هبة عصام وصدرت عن «دار شرقيات» في القاهرة. يلفت في تجربة كلمندي شغفها العميق بالرغبة في التعبير عن المشاعر الإنسانية العميقة: الشغف الذي نقصده هنا يذهب نحو ملامسة الجزئي من تلك المشاعر في تفاصيلها الصغيرة: «وها قد جاء وقت محيّر كالبهجة ولا أحد يمكن أن يميّز بياضه من سواده لم نستطع أن نجد أنفسنا ولا أن نراها ولا حتى أن نلتقي بها أو ربما فقدناها» جيتون كلمندي يلتصق بالشعر فلا نكاد نلمحه مستغرقاً في مباشرة واقعية في صور العيش في بلاده ألبانيا، إذ هو يرسمها من حدقة أقرب للمخيلة منها للواقع. قصائده تنتبه للعميق، أعني لتلك المساحة التي تزدحم فيها الذاكرة بالعيش الراهن في محاكاة شفيفة للأسى...محاكاة تجعل «اليأس» أليفاً ومفعماً ببهجة ما، غامضة وتليق بالشعر: «ربما غداً يكون عددنا قليلاً جداً تعال إلى نافورة العطش.. وانتظر جميع الذين يصلون مبكراً.. ذلك الذي لن يصل أبداً هو ملك لي.. واليوم ...حيث لا أحد يصل في الوقت المحدد اشتر بطاقة الرّحلة التي بلا نهاية وفي كلّ محطة من محطات الكتابة ستجد فاصلة لك وعلامة استفهام لي» في «فواصل للحذف» شعرية تأخذنا نحو جدل المحلّي والكوني بنعومة آسرة، فهذا الشاعر الألباني المسكون بحيوية التعبير عن معاناة راهنة في بلاد «محدَدة» وواضحة الاسم يحمل في قصائده روحاً أخرى لا أبالغ إذ أصفها بروح إنسانية «عامَة»، واللافت هنا أن كلَ قصائد المجموعة كتبت في السنوات القليلة الفائتة. نشير إلى «كونية» الشعر ونحن نقف طويلاً أمام شفافية استحضار كلَ ما هو مشترك مع الآخرين... استخراجه من روحه ومن ذاكرته وإطلاقه في صور ومشاهد شعرية لا تقيّدها حدود مكان ولا زمان. ينتبه جيتون كلمندي لروح الشعر: هنا بالذات نلمس كتابة شعرية تأتلق في حزنها الذي «يخرج» عن خصوصياته الفردية ويشيع في روح القارئ أياً يكن هذا القارئ أو مكانه من عالمنا. هي تجربة من ذلك الشعر الذي يجد طلاقته وحيويته في استرجاع الاغتراب الفردي الخاص، بل والإنساني العام، ولكن ليس لوصفه على نحو ما هو شائع عموماً، بل لزجّه في نار الشعر المقدسة. جيتون كلمندي يكتب من قلب عصرنا الراهن، فيمزج اغترابه الخاص بكل ما هو حميم وقريب من الآخرين، والشعر في كتابه هذا إذ يشير إلى رغبة في «الحذف» إنما يشير إلى معنييها المباشر الخاص بعدم رضا المبدع عن نصوصه عادة، ولكن أيضاً الرَغبة في الحذف بمعناه الذي يشير إلى التجاوز، أعني هنا تجاوز ما يعتمل في العالم من آلام عامة وفردية معاً: «إنه يظهر الآن ثم يختفي، يقارب من أحد الجوانب ويبتعد من الجانب الآخر يتلألأ بلمعان بارق ابق لسانك الثرثار صامتاً واخلق عالماً داخلياً بدلاً مما تراه». إنها كتابة شعرية تتكئ على الرؤية بالمعنى الذي ينحاز للدهشة فيحيلها إلى حوار إيجابي مع مشاهد حياة تبدو عادية فيستقصي الشعر تخومها البعيدة، ويستحضرها في مشاهد مختلفة، مميَزة ومفعمة بفنياتها. الشاعر في هذا ينحاز لروح الشعر أكثر من انحيازه للمباشرة التقليدية وإن ظلَ محتفظاً بروح البساطة في رؤيتها للواقع والحياة. «فواصل للحذف» قصائد مراوغة فهي تشتعل بالبساطة، لكنها بتلك البساطة بالذات تشعل حرائق الحزن الإنساني بفنيات شعرية عالية، تجعلنا نقرأ الكتاب بمتعة وفرح.