تحيل تجربة الشاعرة سهام جبار على مشهد مختلف يبدو عليه الشعر العراقي اليوم، بل لنقل بدقة أكثر منذ ما يقارب العقدين الطويلين. إنها سنوات المحنة العراقية في حلكتها الأشد، وحيث الشعر يشهد ارتدادات كبرى نحو فضاءات إنسانية ضيقة، ومثخنة بآلام حروب ومناحات لا تحصى. كتاب سهام جبّار الثالث «أجساد» ( منشورات شمس – القاهرة – 2010) يبدأ من هنا... من تلك اللّحظة الزمنية الرّاسخة وشبه الثابتة: «لتكن كلُ هذه الكتب وتلك المدن حليفاتك والموسيقى شفرة وقتك». تكتب سهام جبار كما تشاء لها الوحشة، وفي الذاكرة والمخيلة عطب الوقت والبلاد المنكوبة وصور الأحبة. هي قصائد تستعير بلاغتها من حضور كثيف لوحشة العيش الفردي في حمّى الحدث السياسي والاجتماعي العاصف. فموضوعات القصائد أقرب ما تكون الى قراءات في العام من حدقة امرأة تثقلها التكاليف الباهظة لحياة لا تشبه الحياة، حياة يجد الشعر نفسه خلالها مطالباً باللوذ بنحوله وضعفه وانتمائه الى الخسارات، أي أنه – وقد عصفت به رياح التدمير – يؤوب لذاته، ويرى من هناك صور العالم من حوله مثخنة بالجراح ودخان الحرائق. تختار سهام جبار لكتابها الشعري الجديد عنواناً من كلمة واحدة «أجساد»، ولعلّها بهذا الاختيار البالغ التكثيف تومئ لمآل تراجيدي وصله الجسد البشري في محنته الراهنة، بوصفه ضحية تختصر العناوين الواقعية، ولكن أيضاً باعتباره رمزاً لفجيعة تتناسل عن فجائع، وتترك خلفها الحياة تنوس بين الموت ولهاث يشبه الموت: «مثل لطخة سباب تتألم مثل نصل معطّن بالبلاد كلُ حفرة تدعيك وكل محراث يسحلك». شاعرة تنتمي الى الجيل الذي كان مقبلاً على الشعر عشية زلزال العراق، مفعماً برغبات جامحة نحو التعبير بروح الحداثة، والانخراط في التجريب بأشكاله الفنية كافة، ليجد نفسه مع ذلك وإضافة إليه مطالباً بالتحليق فوق حواجز الموت، وهواجس السيارات المفخخة، كي يصل في الوقت المناسب الى عوالم شعرية تقبض على الإنساني، الفردي وذي العلاقة الوشيجة بالروح، وإعادة تأهيله بأدوات تعبير فنية تنتمي الى الجمال. في قصائد سهام جبار «جسد» روح عراقية فيها الكثير من سواد التفاصيل، وظلال الأسى العميق، والطالع بنبرة شعرية خافتة تتنكب عن العناوين الكبرى والموضوعات العامة، ولكن كي تطلق آلامها الفردية من تلك العناوين والموضوعات. واحدة من سمات هذه المجموعة الشعرية الأبرز أنها تفعل ذلك بروح الأنثى. في مناخ شعري تحضر السردية بقوة وإن بمواربة ومداراة، فالقصائد – عموماً – تعكس رغبة شاعرتها في البوح لآخر هو غالباً الرجل الحبيب الذي يأتي خطاب الشاعر له مباشراً في بعض القصائد: «هذا النوم يذهب إليك كغيمة تمطر قصصاً وأنا أتعقب العباءة المتسعة جسدي أمطارها وكلمات ترابك تتجمع فيها». لافتة في قصائد المجموعة لغة الشاعرة، وهي لغة مشحونة، متوترة، تنتخب علاقة إشكالية مع حالاتها. لغة «أجساد» تقارب البساطة والعادية، وتحمل في الوقت نفسه بريقها الخاص، الذي ينطوي على إيحاء الكلمات، وصعودها نحو الحميم برشاقة ويسر. هي بداية أخرى لسهام جبار، الشاعرة التي استفادت من دراساتها الأكاديمية، خصوصاً أنها دراسات انصبّت على الشعر بالذات، وسنرى إلى جانب ذلك تأثيرات المنفي السويدي، وروح الاغتراب واضحة في قصائد المجموعة الأحدث زمنياً. سهام جبار في «أجساد» تبوح بعصف شائك، يناوش عوالم الشعر بثقة كبيرة، فيعثر على جماليات فنية أعتقد أنها تعدنا بالكثير.