كانت لحظة شديدة الحرج، وكانت المدينة تتسلى بالنظر إلى الكارثة نظرة السارق المتيقن من المكان الأمين لما خبأته يداه، وفي قناعة مؤكدة أن لا أحد سيسميه سارقاً. لحظة ستختصر مصير البلاد وتوصلها انحطاطاً، كالذي عناه أن الجنود في طريق هزيمتهم في عام 1991 تركوا آلاف الجثث لزملائهم مرمية على قارعة الطريق، لحظة كانت المدينة فيها تتحول من فتاة جميلة تزداد رقة وعذوبة إلى امرأة مبتذلة، فلا جفنها رفّ بعد رحيل كئيب لأجمل بنيها، ولم ترتبك حين عبرت الشاحنات نهر دجلة أول الفجر، محملة بآلاف انتُزعوا من بيوتهم التي لم تشفع لهم رائحتها العتيقة واعتبروا «غرباء» و «رتل خامس»، وسيقوا إلى حدود ستلتهب بعد أشهر وتصير جهنم لا تزال حتى اليوم تقذف قتلى منسيين وتشهد عبور أسرى من اليأس إلى اليأس. مدينة نزعت جمالها وأخرجت لسانها لمرعوبين: لشيوعيين وشيعة و «تبعية» وبعثيين هم «الأقارب حتى الدرجة الرابعة لأربعين قيادياً» قالوا لا لرفيقهم الدموي الصاعد بقوة إلى الرئاسة. دم نافس النهر في تدفقه، والمدينة تلهو بالورد الخدران على فخذيها، يرميه «فارس الأمة» تاركاً «حلوته»، تتلوى من دون أن يُخرّب صمتها الرخيم. صوت نشاز لعازفين خرجوا على أوركسترا منضبطة، تختلس الأنفاس كيلا تخدش هدوء المايسترو المبتعد إلى كرسي في الشرفة دافعاً بحذائه نحو أفق دجلة المتطلع إلى ضفته اليسرى في بغداد متعجباً من رؤية جنود يبنون سياجاً حديداً بينه وبين كركرات أطفال المتنزهين عصرا وآلاف الندامى السكرانين ليلاً في شارع «أبو نؤاس»، الذي سيتحول جثة طويلة بعدما هجره المتنزهون، وأوصدت حاناته الأكثر من مئة، أبوابها، انسجاماً مع «الحملة الإيمانية»، و «نكاية» باسم الشاعر «الفارسي الأصول». في مدينة كان الوقت يجف فيها والغناء يصير صوت أجلاف متحمسين، يبنون سياجاً يمنع الكركرات من خدش أسماع المايسترو... في مدينة كهذه وفي فجر رمادي كان يتأهب لجعل المدينة صحواً جافاً... أستعيد هنا، أنا الحالم الحزين صوت الشاعر صلاح فائق: «لا شيء أقسى في الصباح من رؤية عمّال يشيدون السجون». كتب تُحرق، حقائب تُعدّ على عجل، وأمهات (مات معظمهن الآن) يشهقن لرحيل الأبناء المرتبك. ومثلما أسرني جواد الأسدي بعذوبة عرضه المسرحي «العالم على راحة اليد»، هزّني برحيله السريع إلى بلغاريا تاركاً نداءه «أوصيكم بأمسيات مع حبيباتكم وقد تعطرن بشذى القدّاح في الوزيرية». وقتها مضيت كالأخرق أتساءل: أيعقل جفاف كل هذا الجمال في المدينة؟ أيعقل أن لا تتشابك الخطى نديّة على عشب حديقة المركز الثقافي البريطاني؟ أيعقل أن لا يعود جواد الأسدي ويضع بيننا تتمة عرضه الحالم الحزين؟ أيعقل أن لا تأتي «صفاء» الناعمة الذكية؟ أيعقل أنني لن أسمعها تغني «دقيت، طلّ الورد عالشباك» وأبكي؟ هل إنني راحل؟ هل إنني قادر على أن أكتم أنفاسي وأنهرها من شمّ رائحة «ورد الرازقي؟» هل سأنسى النشيج في ليل الوزيرية حين أخوض طرقاتها المبللة بآخر رشقة مطر في آذار، عابّاً في صدري رائحة القدّاح فيما لحن جاز يخرج من حانة نيويوركية ويصلني بكوني صاحب «قلب كسير؟». أمضي إلى آخر امتحانات الكلية كأنّ على رأسي الطير. سيارة «شرطة الأمن» التي تعرفها عيون كثر من العراقيين في سبعينات القرن الماضي: (فولكسفاغن بيضاء)، عند الباب الرئيس المؤدي إلى عمادة الكلية، فأغيّر طريقي كي أدخل من الباب البعيد المؤدي إلى «قسم التشريح»، ولحسن حظي أن الأستاذ المشرف على قاعة الامتحان، كان أشبه بصديق قبل أن يكون أستاذاً، ولطالما جمعتني به أحاديث عن الأدب، كما أنه نجل الروائي العراقي الراحل مهدي عيس الصقر، وحين قابلني عند باب القاعة، أشار إلى أنه يفضل دخولي من الباب الخلفي للقاعة، من دون أن ينسى القول: «أجب على الأسئلة بأقصى سرعة واترك القاعة مثلما دخلتها، من الباب الخلفي». على رغم الخوف، كنت أتطلع إلى بقية الزملاء في القاعة وكعادتها كانت ندى، جريئة حين اعتادت في كل امتحان أن ترفع طرف «تنورتها» وتنقل الأجوبة التي دونت بعضها على أعلى فخذها! كنت أول الخارجين من القاعة، وكان الطريق طويلاً من «قسم الجراحة» إلى أول حي سكني ملاصق لسياج الكلية الذي قفزته. ومن هناك توجهت إلى محال «صوت الفن» لبيع الأشرطة الغنائية الذي وجدت فيه ملاذاً يبعد عني الشبهات، وحوّلت الغرفة الملحقة به إلى ما يشبه المستقر، خوفاً من الذهاب إلى المنزل الذي طرق أبوابه رجال شرطة وحزبيون. وجدت في تسجيل الأغنيات وبيعها فرصة كي أجمع مالاً يمكّنني من السفر. كنت منتشياً وأنا أضع شريط «ساتدرداي نايت فيفر» في جهاز التسجيل الضخم، لتنبعث ألحان صاغها ثلاثي «بيجيز» لفيلم ترافولتا الشهير. أختار من الشريط أغنية «مور ذان أوومان» الراقصة حين يكون الراغب في اقتناء الشريط رجلاً، والأغنية الهادئة «هاو ديب إز يور لوف» حين تكون فتاة جميلة. الثوابت الجمالية التي كانت تحدد معرفتي بالموسيقى، «تهرأت» شيئاً فشيئاً. (...). من الموسيقى إلى الكتب بعد هناءات «صوت الفن» والمعرفة الحياتية العميقة، جاء وقت الكتب ودلالاتها. وذلك عندما بدأت العمل مع هاشم، صاحب «مكتبة النهضة» في موقعها البارز والمهم. فهي الأولى من سلسلة من المكتبات في أول شارع «السعدون» وكانت قادرة على استيعاب عشرات الآلاف من الكتب. ومن بين خطوات صاحبها الجريئة والذكية خرجت الطبعة الأولى لأعمال الشاعر سعدي يوسف الكاملة، غير أن الأمر بدا مفارقة تامة. ففيما كانت ماكينات المطبعة تدور، كان صاحب «الأخضر بن يوسف» يغادر البلاد، تاركاً لي محنة السؤال وهو القائل: «بخرابه أرضى؟». أنا الذي كتب عني سطوراً أخذتني إلى الغواية تماماً من دون أن يعرفني، حين وقّع تعليقاً على أربع قصائد قصار نشرتها لي صفحة «أدب الشباب» في جريدة «طريق الشعب» عام 1975 وفيها: «يتقدم صاحب هذه المقاطع الشعرية إلى قصيدة النثر بثقة...». السؤال طاف كغيمة على سماء صحوها أجرد وفاقعاً، فاكتفيت بنظرة ساهمة، لم تكن شحيحة، فهي تطاول «جدارية فائق حسن» التي كانت عنواناً لواحدة من أبرز مجموعات شعر يوسف. ومثلما اقتنيت أشرطة وأسطوانات مختارة بدقة مقابل راتبي في محل الأغاني، كنت أقتني كتباً، وكان الراحل هاشم يقدّر لي ذلك فيجعل الكتب بنصف السعر، على رغم كونه معروفاً ببخله الشديد، لا سيما بعدما وجد مقالات لي وقصائد منشورة في مجلة «الثقافة» التي كان يصدرها الراحل صلاح خالص. نذر الرعب كانت تطل على البلاد، والكارثة تكشف عن ساقيها، غير أن ما سمح لتلك النذر أن تصبح نذيراً، هو قول للناقد والمترجم والمثقف الموسوعي نجيب المانع. فذات صباح وفيما كنت أضع مجموعة من الكتب والمجلات في مدخل المكتبة، حيّاني بابتسامة مرسومة بعناية كما نظراته العميقة حين يصوغ من نقد الموسيقى، نصوصاً في الأدب والمعرفة. فسارعت إلى دعوته إلى فنجان قهوة، بعدما حملت له كرسياً ونسخة من العدد الجديد لمجلة «الهدف» الفلسطينية التي كانت تصلنا من بيروت، وفيه قصيدة لي عن الشاعر البحريني القتيل سعيد العويناتي، وأسأله: ما رأيك بالمفاجآت الآتية من طهران: «وصل الخميني والناس رفعت سيارته على الأكتاف»، وعلى النقيض من حماستي التي كانت، على نحو ما، تعويضاً عن خيبتنا «الثورية» المحلية، قال: «يا ابني إن ما تراه باعثاً على السرور، هو مدخل إلى موت أسود سيحصد بلادنا وأهلها»! ولم تمضِ سنة أو أكثر حتى كان «الموت الأسود» يطل من شبابيك البيوت في أرجاء العراق كلها. إلى مكتبة هاشم ذاتها كانت تصل مجموعات كتب مختارة، اكتشفت لاحقاً أنها كتب شعراء ومثقفين كنت على معرفة وثيقة بالكثير منهم، وهم وجدوا في بيعها آخر الخيارات الكئيبة، بل آخر علامة على استحالة البقاء في مكان كان العقل فيه إلى تصحّر أو جنون. (...). انتهى العام الدراسي ونلت شهادة البكالوريوس في الطب والجراحة البيطرية. وفي صباح الثاني والعشرين من أيلول (سبتمبر) 1980، كنت نائماً على سطح «قلعة راوندوز» في مكان جميل من كردستان العراق حيث كنت جندياً مسؤولاً عن فحص اللحوم والأغذية الطرية لنحو 20 قطعة عسكرية حين مرت على مستوى منخفض 12 طائرة عراقية قاصفة، متوجهة إلى الشرق، حينها استفاق الشاعر فوجد نفسه «صنديد البوابة الشرقية». * شاعر وصحافي عراقي