هي ظاهرة كونية غريبة، فإذا كان كوكب «الزهرة» يعبر أمام قرص الشمس مرة كل 243 عاماً، ولن يرى العالم احتجاباً ل «المشتري» وراء القمر إلا في العام 2041، فإن مصر كذلك لا يُتوقع أن تعايش تجربة فضائية لا تبتعد كثيراً من مجال الفلك، كتلك التي عايشتها «عكاشياً»، إلا مع الألفية الرابعة، وربما الخامسة! الظاهرة «العكاشية» الفضائية التي شغلت – ولا تزال - ملايين المصريين والعرب على مدار 19 شهراً، تستحق البحث والتحليل، لكن أي محاولات علمية لتوثيقها ستظل قاصرة، نظراً إلى عدم توافر الجانب المعلوماتي وغلبة الجوانب الاستقرائية والاستنتاجية والتحليلية التي ترقى بها إلى مكانة الأساطير! مطلوب مذيعة «مزة» بدأت الظاهرة العكاشية –لصاحبها الإعلامي توفيق عكاشة- بداية دراماتيكية لا تقل صخباً أو إثارة للجدل عن نهايتها! «مطلوب مذيعة مزة» كانت الترجمة الشعبية للإعلان الغريب الذي نشرته الصحف اليومية لمصلحة القناة الجديدة الباحثة عن مذيعات سمراوات لا يقل طولهن عن 160 سنتيمتراً ولا يزيد على 170، مناشداً مَن لا تتوافر فيهن الشروط عدم التقدم، منعاً للإحراج. لكن الإحراج كان حليفَ القناة، بدءاً باسمها («الفراعين»)، وهي الكلمة الدارجة التي يستخدمها أنصاف المتعلمين والأميين للإشارة إلى «الفراعنة»، وانتهاء بالمدرسة الجديدة التي ابتدعتها في مجال ال «توك شو»، إذ لم يَخرج برنامجُ «مصر اليوم» -لصاحب القناة وضيفها المزمن ومذيعها الأول باسم «مصر اليوم»- برنامجَ «توك شو» بالمعنى المعروف، من لقاءات وحوارات واستعراض للأخبار، بل اصطبغ بالصبغة العكاشية وانفرد صاحبه بال «توك» (الكلام) كله لنفسه! تميزٌ آخر اكتسبته «الفراعين» لاحقاً -مع اندلاع ثورة يناير- وتميزت به غير اسمها! ف «الدكتور» عكاشة كان أكثر ملكية من الملك نفسه، بمعنى آخر كان أكثر عداء للثورة من التلفزيون الحكومي نفسه! فوائل غنيم -أحد أبرز مفجري الثورة– تحول في العرف العكاشي إلى «عميل للاستخبارات الأميركية وماسوني وصهيوني»، وفي أيام أخرى «يدعم إيران و «حزب الله» و «حماس»، و «الإخوان المسلمين عملاء الموساد الإسرائيلي»، إضافة بالطبع إلى أجندات الثوار الخارجية، ووجبات التحرير «الكنتاكية» (من «كنتاكي»)، وهو الاتجاه الذي يبدو طبيعياً في ضوء انتماء عكاشة قلباً وقالباً إلى نظام الرئيس السابق محمد حسني مبارك، فقد كان دائمَ الطبل والزمر له، وإن احتفظ لنفسه بهامش من الانتقادات كان يوجهها إلى وزرائه بين الحين والآخر، حباً بالرئيس وكرهاً لمعارضيه الراغبين في التغيير! ويأتي على رأس التغيير مفجِّر الثورة الشاب خالد سعيد، الذي تسبب مقتله على أيدي رجال شرطة في اندلاع شرارة ثورة كانون الثاني (يناير)، والذي لقبه عكاشة وآخرون ب «شهيد البانغو»، بل واستنكر إطلاق لقب «أم المصريين» على والدته التي شاركت في الثورة، وأنّبها لعدم قيامها بواجبها في تربية ابنها القتيل، ما شجعه على إدمان المخدرات، حسبما ردد مرات في برنامجه. وشهد البرنامج كذلك تأكيدات متتالية على أن جماعة «الإخوان المسلمين» هي «الطرف الثالث» في كل المجازر وحوادث القتل التي شهدتها المرحلة الانتقالية. وأصر عكاشة خلال حلقات كثيرة على امتلاكه وثائق ومستندات تبرهن على ضلوع «الإخوان» في حوادث قتل المتظاهرين، وحين وصل الأمر إلى القضاء، وقف أمام المحكمة ليقول إن ما ذكره في برنامجه لا يخرج عن إطار التحليل السياسي، لكنه خرج من المحكمة ليتابع هجومه على تيارات الإسلام السياسي، لا سيما جماعة «الإخوان». حزب الكنبة ولأن معارضي الجماعة ليسوا فقط بقايا النظام السابق وفلوله، شهدت الظاهرة العكاشية أمراً مستجداً في أوائل العام الجاري تزامناً مع صعود النجم الإخواني، فبدلاً من نِسَب المشاهدة المرتفعة جداً التي حظي بها عكاشة في ريف مصر وبين الطبقات البسيطة التي حرص على استقطابها باللهجة الفلاحي والتشبيهات القروية، بدأ بعض المتضررين من «أَخْوَنَة» مصر، من المتعلمين وأبناء الطبقات المتوسطة وما فوقها والمنتمين الى «حزب الكنبة» التاريخي، يلقي بالاً واهتماماً وأذناً صاغية للحديث العكاشي، وتنامى الشعور العام بأن هناك توارداً فكرياً غامضاً بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة -الذي أحيل معظم أعضائه للتقاعد- وبين توفيق عكاشة، حتى أن بعضهم نعته بأنه «الناطق الحقيقي لكن غير المعلن باسم المجلس»! وبصرف النظر عن كينونة العلاقة، شهد الأثير انفصالاً عاطفياً عاصفاً بين الطرفين، بعدما طالب عكاشة المجلس بانقلاب عسكري تارة، ووصف مدير الاستخبارات الحربية في حزيران (يونيو) الماضي آنذاك، اللواء عبد الفتاح السيسي، بأنه رجل «الإخوان» في القوات المسلحة (يشار إلى ان اللواء السيسي عُيّن في آب (أغسطس) الماضي وزيراً للدفاع)! وبلغ الموضوع ذروته الدراماتيكية المثيرة مع مبادرة «أدمن» (صفحة المجلس العسكري على فايسبوك) إلى الرد على عكاشة ونفي اتهامات «بيع المجلس العسكري مصر لجماعة الإخوان». وتكتمل الأسطورة العكاشية التي تعد جزءاً محورياً في المرحلة الانتقالية في مصر، بكمٍّ هائل من الاتهامات، من سب الكاتب علاء الأسواني إلى التحريض على قتل الرئيس محمد مرسي... وفي كل مرة يتوجه عكاشة إلى المحكمة، يقف أنصاره مطالبين بعودة «الفراعين» للبث، وتراوده مخاوف أيضاً من ملاحقة أنصار جماعة «الإخوان المسلمين» له، هو الذي قال على الهواء قبل أشهر إنه في حال وَصَلَ «الإخوان» إلى سدة الحكم فإنهم «سيربطونه من رجليه ويلفّون به الشوارع». لم يَدَع عكاشة مجالاً للجدل إلا طَرَقَه، فقبل أيام توجه إلى قسم الشرطة ليتأكد من عدم صدور أحكام غيابية ضده، فاكتشف أنه مطلوب في خمس تهم صدرت فيها أحكام ضده، تتراوح بين سرقة تيار كهربائي وإصدار شيكات من دون رصيد. اما الشيخة ماجدة –وهي سيدة مصرية مثيرة للجدل دأبت على مساندة مبارك والتحذير من أن محاسبته ستؤدي إلى زلزال مدمر–، فكان تعليقها: «توفيق عكاشة بطل ومناضل»!