كان الصديق الدكتور محمد البرادعي يقول لي أيام رئاسته وكالة الطاقة الذرية الدولية في فيينا: «يا جهاد، مصر دولة فاشلة.» وهو عاد إلى مصر ورأى بأم العين مدى الفشل الذي أرجو أن يكون للدكتور دور في إصلاحه. ليست مصر أو أي دولة عربية أخرى هي الفاشلة، فقد وصلتُ إلى قناعة خلاصتها أننا أمة فاشلة. الفشل يحيط بنا إحاطة السوار بالمعصم، وهي عبارة أذكرها من أيام المدرسة الثانوية، إلا أنني كاتب، أو هكذا أزعم عن نفسي ولنفسي، ولا أستطيع أن أكتفي بتسجيل بديهية يعرفها القراء جميعاً وينكرها بعضهم، بل تقضي «الحرفة» والمهنية أن أشير إلى السبب وأقترح علاجاً. سبب الفشل أننا نحاول، فالإنسان الذي لا يحاول لا يمكن أن يُتهم بالفشل، أما نحن، فقد حاولنا تحرير فلسطين وأضعنا البقية، وطلبنا الوحدة وانتهينا بتقسيم الوطن الواحد، وسعينا لتحرير الإنسان العربي من الجوع والمرض والجهل فبقيَتْ، وزاد عليها الخوف من النظام. إذا كان ما سبق صحيحاً، فإنني أقترح حلاًّ ألاّ نحاول، فلا نفشل، ويشجعني على هذا الاقتراح أن الدنيا صيف، والغالبية العربية لا تحب أن تجاهد وتجتهد حتى لا تتعب وتعرق وتُحرم من النوم بعد الظهر. هي خواطر ذاتية أحاول عبرها أن أبتعد بالقارئ عن أخبار سورية وغيرها. وقد اخترت في أيام سابقة الشِّعْر، الذي يحبه العرب، وأخلط اليوم الجِدّ بالهَذَر ليختار القارئ ما يريد منهما. هل لاحظ القارئ أن النجاح لا شاهدَ عليه، فالواحد منا قد يصطاد أكبر سمكة في البحر ثم يكتشف أنه نسي «الموبايل» في البيت ولا يستطيع أن يأخذ صورة للحوت الذي اصطاده ويبثها حتى يصدقه الناس. أما الفشل، فهو يحدث عادة أمام جمهور غفير، والفشل العربي جمهوره العالم كله، الذي أصبح يضم سبعة بلايين نسمة. في جميع الأحوال، النجاح مبالَغٌ في أهميته، فهو يأتي مع حسد الناس من الناجح، وأعوذ بالله من شر حاسد إذا حسد. والصديق يقبل لك النجاح شرطَ ألاّ يزيد على نجاحه. ثم إن ما نعتبره نجاحاً قد لا يراه «الخواجات» كذلك، فالنجاح عندهم أن ترتدي ثياباً كإنكليزي، وأن تأكل كفرنسي، وتعشق كإيطالي، إلا أن جارنا العربي في ثياب البيت يعشق الرز واللحم ويأكل بيديه. مرة أخرى، النجاح مبالغ في أهميته، وأستطيع أن أتوكأ على تجربتي في لندن، حيث وجدت أن النجاح هو أن أعمل وأجمع ما يكفي من الفلوس لدفع ضرائب ما كنت مضطراً لدفعها لو لم أنجح. بكلام آخر، أنا أدفع أعلى نسبة ضريبة في لندن منذ ربع قرن، ولو كنت لا أعمل لما دفعت شيئاً، بل لدفعَت الدولةُ نصيبي من الضمانات الاجتماعية. لا أقول إن الفشل أفضل من النجاح، وإنما أقول إنهما سيّان. ثم أنقل إلى القارئ كلاماً حكيماً قرأته، هو أن الفشل ليس أن تقع، بل ألاّ تنهض من وقعتك. الكلام السابق يعني أن على الإنسان أن يحاول ويحاول، وعندما يفشل (لا أقول: وإذا فشل) فأنصحه أن يدخل في حالة إنكار، كبعض قادة الدول العربية. لا أحتاج إلى تسمية القادة المقصودين، فالواحد منهم يصر على أن الشعب يحبه، بل «يموت فيه»، لذلك يفتح المواطنون صدورهم للرصاص، فالموت أرحم. على الأقل الفشل لم يُفسد القائد الملهم، فهو فاسد أصلاً. أكتفي بالسطور القليلة السابقة من حديث السياسة، لأن غرضي اليوم، كما ذكرت في البداية، هو الابتعاد بالقارئ عن المنغِّصات، بما فيها الفشل العربي العام والخاص، فأحدثه عن فشلي، وأنا مع العائلة في بيت لنا في فرنسا مهجور عشرة شهور في السنة، فأذهب في إجازة أسبوع وتذهب العائلة في إجازة شهرين. ماذا يفعل الرجل في أسبوع في بيت مهجور؟ يصلح ما خرّب الشتاء من كهرباء، وما قلب من «دش» التلفزيون، ويملأ البراد والخزائن بالطعام وزجاجات الماء، ثم يعود إلى عمله، فأذكر مثلاً قديماً من جبل لبنان «مثل عزيمة الحمار على العرس. يا ينقل المعزومين أو ينقل الماء». ودخلنا الخريف، خريف السنة، وخريف الثورات العربية، وكنت سجلت أهدافاً كثيرة مع بدء الصيف، إلا أن الحَكم احتسب أنها «تسلُّل» وأطلق صفارة نهاية المباراة. [email protected]