الكل يريد أن ينجح، غير أنني وجدت عبر التجربة الشخصية ومراقبة الناس حتى متُّ هماً أن النجاح مبالغ في أهميته أو لا يستحق أهميته. إذا نجحت تزيد الضرائب عليك، يكثر أقاربك، تتعرض لمغريات تتعارض مع الصحة والأخلاق والدين ولكن تتوافر فقط لذي مال، تخاف من اللصوص، تقلق على صحتك فتمتنع عن أكل ما تحب، تتفاقم طلبات زوجتك، تخاف على أولادك من «أولاد الحرام» والمخدرات، يعلو سور البيت، ربما مع شريط شائك فوقه، تنصب كاميرات على زوايا السور ومدخل البيت والباب الخلفي. إذا فشلت تفشل وحدك، والناس يتركونك وشأنك. أكتب على خلفية جلسة مع أصدقاء في لندن استغبنا فيها المسافرين من الأصدقاء، وكلنا يراجع رحلة العمر معاً ومَن نجح ومَن فشل. يفترض أن كل عربي، إذا لم يكن طبيباً أو مهندساً، فاشل، فقد كان مقياس النجاح في سنوات مراهقتي ولا يزال دخول كلية الطب أو الهندسة، غير أنني لم أصلح لهذه أو تلك وزعمت أنني لا أريدهما، على طريقة حصرم في حلب، لأن ابنة عمي طبيبة ولأن أبناء عمي مهندسون، وهذا يكفي العائلة ويزيد، ثم أن أكثر طلاب كلية الهندسة في الجامعة الأميركية في بيروت كانوا من الأرمن، وعندي أصدقاء كثيرون من الأرمن ما لا أحتاج معه الى زيادة. طبعاً أنا هنا أبرر فشلي الشخصي وخيبة أمل العائلة في ابنها الذي لم يتخرج طبيباً أو مهندساً، إلا أن عذري مكشوف لم يقبله الأصدقاء، وهاجمني أحدهم زاعماً أنني أحط من عزيمة الأمة بانتقادي الدائم وحديثي عن فشل العرب والمسلمين حاولوا أو لم يحاولوا. لا أعتقد أن الأمة بحاجة الى تحريض مني لتفشل، فالفشل خالط الهواء والماء واللحم والدم، كما خالط البخل أهل مرو، حتى أن الديك هناك، كما زعم الجاحظ، ينقب عن الحب ويسبق الدجاجة في أكله، بدل أن يقدمه لها كما تفعل الديكة في كل بلد آخر. منذ عبور طارق بن زياد البحر الى الأندلس سنة 91 هجرية (711 ميلادية) ونحن نخسر من رأس المال الذي بنيناه في أقل من مئة سنة من الرسالة والفتوحات، ولمعلومات القارئ فالجزيرة الصغيرة نفسها التي هبط عليها طارق ورجاله قبالة الساحل الأندلسي أكلتها مياه البحر، ولم يعد لها وجود الآن، وضاعت الأندلس مع ما ضاع في 1300 سنة من الفشل المتواصل. على كل حال الفشل العام، أو فشل الأمة، لم يؤد الى أن ترتاح، فهو جعل شذاذ الآفاق والقريب والغريب يطمع فيها، وموضوعي اليوم هو الفشل الفردي الذي أجده أفضل من النجاح، وأنا لا آتي بجديد هنا فهناك مثل شعبي في بلاد الشام هو «قلة المال راحة ولو أنها خراب ديار». وعندي قصة ذات علاقة عن امرأة في طريق عودتها الى البيت من جولة تسوّق ترى مشرداً يطلب منها حَسَنة، وتقول إنها تخشى أن ينفق المال على الخمر ويؤكد أنه لا يتعاطاه، وتقول إنه قد يتسوق بالمال ويؤكد لها أنه لم يدخل متجراً منذ سنوات، وتقول إنه قد ينفقها على الحلاقة والزينة، ويؤكد لها مرة أخرى أن التزين آخر همومه. هنا تدعو المرأة المشرّد أن يرافقها الى البيت ليتناول العشاء معها ومع زوجها. ويقول لها إن منظره كئيب ورائحته كريهة. وترد: أريد أن يرى زوجي شكل انسان لا يبدد ماله على الخمر أو التسوق أو التبرج. كنت بعد الجلسة مع الأصدقاء قارنت بين النجاح والفشل، وفوائد الواحد أو الآخر، وهل أكتب عن الموضوع، وربما كنت عدلت لولا أنني أقرأ مجلة «نيويوركر»، وأبدأ من البداية حيث توجد عروض مختصرة للمسرحيات في برودواي. ولفت نظري اسم مسرحية هو «نجاح الفشل، أو فشل النجاح» من تأليف سنتيا هوبكنز، والمسرحية هذه هي الأخيرة في ثلاثية لها. أعرف قليلاً عن الآنسة هوبكنز، فمن الصعب ألاّ أعرف، لأنها مغنية وكاتبة أغان وراقصة وممثلة ومؤلفة مسرحية، ثم تشكو الفشل، مع أنها لو نجحت في واحدة فقط من مهنها لكفاها ذلك، وقد وصلت الى برودواي، ما يعني أن النجاح حصل وقُضي الأمر. وقرأت أنها تشكو من أن ادمانها الخمر في العشرينات مسح ذكريات بعض سنوات العشرينات من عمرها وهي في «حنين الى جهل الشباب». زوري بلادنا يا آنسة وستغرقين في جهل الشباب والشيب. [email protected]