لئن اختارت الكاتبة خالدة سعيد ال«يوتوبيا» عنواناً لكتابها الجديد، الذي تستعيد فيه الحقبة الثقافية التي شهدتها بيروت بدءاً من الخمسينات حتى اندلاع الحرب الأهلية، فهي لم تتمثل المفهوم الفلسفي السلبي الذي تضمره كلمة «يوتوبيا»، وهو وفق التفسير الأصلي أو الإغريقي لها «ما ليس في مكان»، فالكاتبة تشير في تقديمها هذا الكتاب، الفريد في جمعه بين التحليل والتأريخ والتوثيق، الى ما تسمّيه «سعياً ضدّ النسيان». وهذا السعي ضدّ النسيان، الفردي والجماعي، إنما يعني أن المدينة التي تسترجعها كانت حقيقية ثمّ ما لبثت أن أصبحت مدينة يوتوبية، وهي كما يحدّدها الفلاسفة، مدينة خيالية ذات نظم مثالية تضمن لأفرادها أسباب الخير والمعرفة والسعادة... لكنّ إصرار خالدة سعيد على حقيقة هذه المدينة، التي هي مدينتها، والتي عاشت حقبتها الذهبية وشاركت في صنعها، أبعد الصفة الخيالية عنها، بل أسبغ على هذه الصفة معنى المثالية. تؤدّي خالدة سعيد في استعادتها الصورة البهية لمدينة بيروت دورَ الشاهد، الشاهد لها، المنحاز والملتزم وليس الحيادي واللامبالي، لكنّها في غمرة هذا الافتتان، كانت «مؤرخة» موضوعية، تنطلق من فعل التوثيق لتمعن في التحليل والتأويل، وفي استخلاص المعاني المتعددة. وكم كان حريّاً بهذا الكتاب أن يَصدر غداة الاحتفال ب «بيروت عاصمة عالمية للكتاب» قبل عامين، فهو خير مدخل الى فهم «معنى» بيروت، «مشروع المدينة المثقفة» كما تسمّيها الكاتبة، وأعمق مقاربة للحالة «الإشكالية» التي تجسّدها هذه المدينة، وأشمل قراءة لأفقها الثقافي. وقد اختارت الكاتبة أن تكون توثيقية في كتابها لئلا تقع في شرك التنظير والأيديولوجيا والمديح اللبنانوي المغالي والتخايل كما عوّدنا بعض الغلاة، وانطلاقاً من هذا التوثيق نجحت في ترسيخ الخلاصات المثالية التي توصّلت اليها. وإن كان قراء خالدة سعيد –وأنا واحد منهم– قد تابعوا بعضاً من النصوص الذي ضمّها الكتاب، منشورة في صحف ومجلات عدّة، فإن قراءتها الثانية في سياق الكتاب يمنحها بعداً آخر، فهي هنا تصب في صميم المشروع التأريخي–التحليلي الذي سعت إليه الكاتبة. تتبدّى «عملانية» هذا الكتاب «يوتوبيا المدينة المثقفة» (دار الساقي) في تركيزه على المؤسسات الثقافية، التي صنعت «حقيقة» مدينة بيروت والتي نهضت بين الاستقلال والحرب الأهلية، كما تعبّر الكاتبة. إنها إذاً الحقبة التي يحدّها الاستقلال من جهة والحرب من جهة، الاستقلال الذي رسّخ الكيان اللبناني الذي كان دوماً، ولا يزال، مَحَطَّ سجال تاريخي وثقافي، والحرب الأهلية التي دمّرت «ميثاق» الاستقلال وفضحت مثاليته الخاوية. لكنّ هذه الحقبة التي توسّطت هاتين -البداية (أو شبه البداية) والنهاية (أو شبه النهاية)- مثلت بحقٍّ الذروةَ التي بلغتها «الفكرة» اللبنانية. أما المؤسسات التي تختارها الكاتبة وتبني مقاربتها الثقافية على قاعدتها، فهي خمس، وهي فعلاً الأبرز والأهمّ: الندوة اللبنانية، اللقاء الفيروزي–الرحباني، مجلة «شعر»، مجلة «مواقف»، و «دار الفن والأدب»، وترى أنّ منشئي هذه المؤسسات آمنوا بأن «الثقافة والإبداع هما شأن كلّ مواطن واعٍ ومسؤول، وأنهما من أهمّ الأركان لبناء الإنسان والوطن واللحمة الاجتماعية وتجديد حيوية المجتمع». هذه الأهداف التي وضعها أمامهم هؤلاء المغامرون والحالمون في إنشائهم هذه المؤسسات، نمّت عن ضرورة التلاحم بين الثقافة والمواطنة، بين الإبداع والجمهور، بين الإنسان والعالم، وإن بدت بضع مؤسسات منها ذات توجّه نخبوي، فإن النخبوية هنا لم تكن إلا التزاماً بحركات التجديد ومواجهة «الأصولية» الثقافية والتحجر. وأهمّ ما تشير اليه خالدة سعيد هو الطابع الفردي لهذه المبادرات، فالمؤسسات الخمس «نهض بها أفراد بلا دعائم، لا اقتصادية ولا طوائفية أو سياسية أو فئوية من أي نوع». إنهم أفراد «ينتمون الى الثقافة والى لبنان». أما الهامش الثقافي الذي أوجدوه أو خلقوه فكان مشرَّعاً أمام الجميع على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم. هذا الهامش الناجم عن جهود الأفراد أصبح هو «المتن» الذي تجلّى من خلاله المشروع الثقافي. والفردية هذه هي إحدى الصفات الفريدة التي وسمت الثقافة اللبنانية وحرّرتها من أي وصاية أو هيمنة رسمية أو «توجيه» مسبق، وقد تفرّد بها لبنان ثقافياً، على خلاف معظم الدول العربية التي حكمتها أنظمة عسكرية أو دينية، أولاً نظراً الى «أمية» السلطة –إن أمكن القول-، وثانياً تبعاً للحرية التي يتمتع بها اللبناني، فرداً وجماعة، وهذه الحريّة نجمت عن تفكك النظام الطائفي الذي كان قدر لبنان، بلد التعدّد، الذي لم يعِ جيداً أهمية هذا التعدّد. تقرأ خالدة سعيد المشروع الثقافي اللبناني الحديث في ضوء «النهضة العربية» في شطرها اللبناني، لا سيما في البعد الفكري–السياسي، والوجه الأدبي–اللغوي، فالحداثة اللبنانية بدت وارثةَ النهضة وامتداداً لها، مثلما بدا المثقف اللبناني المعاصر وارث المثقف النهضوي وامتداداً له، كما تعبّر الكاتبة. ومثلما تخطى النهضويون اللبنانيون «المشاحنات الطائفية» وواجهوها، تخطى المثقفون المعاصرون «الأشراك» الطائفية وعمدوا الى فكفكتها. لكنّ جهودهم آلت الى خاتمة ما كانوا يرجونها يوماً، وهي الحرب الأهلية بهويتها الطائفية. تنطلق الكاتبة من «الندوة اللبنانية» التي أسّسها الكاتب ميشال أسمر ودامت على نشاطها نحو أربعين عاماً وكانت «منبراً للمعرفة والتبادل، كما للاختلاف والسجال». تفرد الكاتبة خمسين صفحة ل «الندوة» التي انطلقت عام 1946 غداة نيل لبنان استقلاله بعد جلاء الفرنسيين، فتقدّم أبرز خطوطها الفكرية، ثم تتطرّق الى أهدافها والإنجازات التي حققتها. أما ميشال الأسمر، فكان -برأيها- يغتذي من مصدرين للإلهام: الثقافة العربية النهضوية والثقافة الحديثة. وما ميّز «الندوة» أنها وجّهت نشاطها في منحى «تفكير» الدولة، فعنيت بمشاريع الدولة الجديدة وأنظمتها، الاقتصادية والإدارية، علاوة على اهتمامها بالتيارات الفكرية والحركات والأفكار، وكذلك حوار الأديان. المحاضرات - البيانات ثمّ تنتقي الكاتبة خمساً من محاضرات الندوة الكثيرة تصفها ب «البيانات التأسيسية»، تبعاً لحداثتها وطليعيتها بل وثوريتها. هذه المحاضرات–البيانات دعت الى الاحتفال بالتاريخي والشهادة للعصر، والى تطوير اللغة والأدب، ترسيخاً ل «كلية التجربة الإنسانية». وبدءاً من تلك الحقبة، حقبة الخمسينات، أصبحت بيروت كما تقول، عاصمةَ اللجوء العربي، السياسي والثقافي، عاصمة الحرية والحداثة. وتقول: «مع نهاية الخمسينات أصبح على الشاعر أن يمرّ عبر بيروت ليكرَّس عربياً ويجد شهرته». ليس في هذا الكلام مبالغة أو ادعاء، وإن بدا اليوم شبه خرافي، نظراً الى حال «الاستلاب» التي تحياها بيروت. أما المحاضرات–البيانات، فهي بحسب ترتيبها الزمني: 1- «ممّ يشكو الأدب العربي الحديث»، ألقاها سهيل إدريس لمناسبة إصداره مجلّة «الآداب» عام 1953. هذه المحاضرة كانت بمثابة «بيان» الالتزام في الأدب. وجاهر ادريس في المحاضرة بالدعوة الى سلوك سبيل «الالتزام» بغية تدعيم الأدب الجديد وتركيزه. وبدا إدريس في دعوته الى الأدب الملتزم، متأثراً بالتيار الواقعي والمواقف القومية والسياسية وبمقولات جان بول سارتر، وإن جزئياً وليس بالعمق. 2- «العرب والثقافة الحديثة» محاضرة ألقاها المفكر قسطنطين زريق عام 1956، زمن صعود الناصرية والمدّ القومي، وعُدّت «بيان الحداثة العربية»، فمن خلال هذه المحاضرة عمل زريق على تحديد مقوّمات الثقافة العالمية الحديثة، مقارناً بينها وبين هذه المقومات في الثقافة العربية. وفي رأيه أنّ الهزائم والنكبات التي حلّت بالعرب ما كانت لتحلّ بهم لولا افتقارهم الى الثقافة الحديثة. 3- «مستقبل الشعر في لبنان»، محاضرة ألقاها الشاعر يوسف الخال عام 1957 بعد صدور العدد الأول من مجلّة «شعر» وكانت بياناً للحداثة الشعرية العربية. 4- «نحن بلا أقنعة»، محاضرة ألقتها الروائية ليلى بعلبكي عام 1959 بعد صدور روايتها «أنا أحيا»، وبدت هذه المحاضرة أشبه ببيان الثقافة الشبابية، لا سيّما أنها لقيت صدى في أوساط الطلاب الجامعيين، الذين كانت تمثل رواية «أنا أحيا» صرختهم ضدّ الثقافة والحياة التقليديّتين. 5- «الحوار الإسلامي المسيحي» كما نظّر له المفكر الأب يواكيم مبارك عبر ثماني محاضرات ألقاها تباعاً في «الندوة». ويمكن استخلاص «بيان الحوار الديني» من الأفكار التي طرحها مبارك وكانت مدار نقاش وطني عميق. عمدت خالدة سعيد الى قراءة «المشروع» الثقافي اللبناني انطلاقاً من هذه البيانات الخمسة التي يمكن وصفها ب «الأسس» الخمسة التي قام عليها «المشروع» الذي عمل عليه ميشال أسمر والمثقفون الذين شاركوا في «الندوة». ولم يكن إدراجها هذه «البيانات» أو «الأسس» في سياق ثقافي واحد إلا تأكيداً على خصوصية الثقافة اللبنانية، ومثالية هذه «الخصوصية» التي تجلّت طوال الخمسينات والستينات ثم ما لبثت أن سقطت عند «بوابة» الحرب الأهلية. وكان لا بدّ للناقدة من أن تتوسع في معالجة هذه «البيانات» وتفنيد معطياتها، لتثبت أن هذه اليوتوبيا، يوتوبيا المدينة ويوتوبيا «المشروع» اللبناني، لم تكن ضرباً من المثالية المستحيلة والخيال أو الوهم. أرادت أن تؤكّد أن الحلم الذي راود أهل الثقافة في لبنان أصبح حقيقة في حقبة تاريخية محددة، حتى وإن استحال الحلم كابوساً مع اندلاع الحرب. وهذا «الحلم» وجدت أجمل تجلّياته الفنية في «المشروع الرحباني الفيروزي» الذي أمعنت فيه قراءة وتحليلاً، مركّزة حيناً على الإبداع الرائد، مسرحاً وكلمة وموسيقى، وحيناً على الرمز الفيروزي، حضوراً وصوتاً خارقاً. ولعلّ ما كتبته عن الظاهرة الرحبانية–الفيروزية هو من عيون المقالات والأبحاث التي كتبت عنهم، فهي رسخت هذه الظاهرة في سياق التاريخ اللبناني الذي شهد تحوّلات سياسية واجتماعية و «ثورات» ثقافية، شعرية وموسيقية ومسرحية... إنها اليوتوبيا الرحبانية–الفيروزية التي هي يوتوبيا لبنان الذي كان وأضحى في عهدة الذاكرة المهدّدة دوماً. ثم تنتقل الى مجلّة «شعر»، التي كانت رائدة «تحرير الشعر وتحرير الإنسان». في هذا البحث الشامل تتطرّق أيضاً الى قصيدة النثر التي انطلقت من صميم المشروع الحداثي الذي أنجزته «شعر» ولا سيّما عبر ديوان «لن» للشاعر أنسي الحاج ومقدمته الشهيرة، وعبر نصوص أدونيس النظرية التي تبنّت هذه القصيدة بأفقها الواسع والحرّ. هذه الصفحات الخمسون التي خصّت بها مجلّة «شعر»، هي من أهمّ ما كتب عن المجلة، تأريخاً وتفنيداً للأبواب والظواهر التي حفلت بها، ثم تحليلاً عميقاً للتجارب التي ندّت عنها وترسيخاً للأسئلة التي طرحتها المجلّة، نظرياً وإبداعياً، والثورة التي أحدثتها في «الشعرية» العربية. ويحتاج هذا البحث قراءة على حدة، فالكاتبة التي رافقت المجلة وشاركت في ثورتها هي خير مَن يمكنه الكتابة عنها، بشغف أولاً ثم بمعرفة وموضوعية. «مواقف» أدونيس بعد مجلة «شعر» كان لا بد من تناول مجلة «مواقف» التي أصدرها الشاعر أدونيس بين العامين 1968 و1994، بعد انفصاله عن «شعر». والمجلة التي حملت شعاراً ثابتاً هو «للحرية والإبداع والتغيير» مثلت ما تصفه خالدة سعيد ب «يوتوبيا نقدية»، فالمجلة التي صدرت في أعقاب هزيمة 1967 سعت الى تعميق ما سمّي «النقد الذاتي بعد الهزيمة» وعاودت طرح الأسئلة الجوهرية التي تعني الكيان العربي، فكرياً وسياسياً وإبداعياً. وعاودت أيضاً النظر في الثقافة العربية وأزماتها، فاضحة الأكاذيب الكبيرة والصغيرة التي اعترت هذه الثقافة طوال سنوات. وتختصر الناقدة مسيرة المجلة في أربعة جوانب رئيسة ومتكاملة مثلتها «مواقف»: إعادة النظر في البنى والأصول الفكرية والدينية والسياسية والاجتماعية للثقافة العربية ونقدها والنظر في دورها وموقعها في الحياة العربية المعاصرة، اكتشاف المواهب الشعرية الجديدة، تحقيق وثبة جديدة على مستوى ترسيخ مكتسبات الحداثة وتوسيع أفقها، من الشعر الى القصة والنقد والفلسفة والسياسة والاجتماع، فاعلية أدونيس ورؤيته الفكرية والشعرية. وتخصّ الناقدة «دار الفن والآداب» بفصل عنوانه «الثقافة كنسيج حياة». ولعل مشروع «دار الفن والأدب» الذي انطلق عام 1967 ارتبط بشخص مؤسِّسة هذه الدار، جانين ربيز، المرأة المثقفة والفنانة الطليعية والحالمة. وقد شاءت أن تكون هذه «الدار» كما تقول خالدة «ساحة مفتوحة للأفكار والإبداعات... ساحة مفتوحة ومتواصلة لحياة ثقافية يومية، لحياة متكاملة في الثقافة والتفكير والانتاج، للسجال والتفاعل». وقد قدّمت هذه «الدار» أعلام الطليعة اللبنانية والعربية والعالمية، في الأدب والمسرح والفلسفة والموسيقى والسينما وقضية النساء وثورة الطلاب... ومن الأسماء التي شاركت في برامج «الدار»: غروتوفسكي، أرابال، حسن فتحي، مارغريت دوراس، يوسف شاهين، نزار قباني، مكسيم رودنسون، بازوليني، كاتب ياسين... سعت جانين ربيز الى تجسيد حلمها وحلم الآخرين ب «مدينة ثقافية» تكون الثقافة فيها ممارسة يومية حياتية. في الفصل الاخير من الكتاب، وعنوانه «أضواء» تتوقف الكاتبة عند اسماء وأعمال، بعضها لبناني وبعضها عربي. تكتب عن المطران جورج خضر رائد «يوتوبيا العروبة البيضاء»، وعن الشاعر أنسي الحاج الذي تصفه ب «ضوء في خليج العواصف»، وعن سعاد نجار الناشطة الثقافية الرائدة. ومن الكتاب والشعراء العرب تكتب عن محمود درويش (ضوء في ظلام العبث) وعن غسان كنفاني (الشهاب) وعن جبرا إبراهيم جبرا (الوجوه والأقنعة) وعن سعدالله ونوس (من مسرحة العالم الى مسرحة الذات)... ولعلها اختارت هذه الاسماء دون سواها لعلاقتها ب «المشروع» الثقافي اللبناني ومساهمتها فيه من بعيد أو قريب. وقد يسأل سائل: لماذا اكتفت خالدة سعيد بهذه المؤسسات والاسماء اللبنانية من دون سواها، في ترسيخها لصورة بيروت والمشروع الثقافي اللبناني الرائد؟ وقد يتذكر هؤلاء على سبيل المثل مجلة «الثقافة الجديدة» أو مجلة «الطريق» او المطران غريغوار حداد ومجلته «آفاق»... هذه المساءلة مشروعة حقاً وتؤيدها خالدة سعيد نفسها مادامت قد فتحت في هذا الكتاب الفريد سبيل البحث عن أسرار المشروع الثقافي اللبناني والخصوصية اللبنانية بجرأة وموضوعية، مستعيدة اجزاء من الذاكرة البهية لمدينة هي دوماً في مهبّ العواصف.