... وفي زعم السلفية السياسية أنها تستند إلى عتاد إيديولوجي لا تقبل مساً به بفضل قدسيته وتعاليه على كل ما صنع البشر الفانون. بيد أن الزعم هذا لا يصمد عند تقليبه على أوجهه. ومنذ النصف الأول من القرن العشرين، وخصوصاً بعد الحملة التي تعرض لها طه حسين بسبب كتابه «في الشعر الجاهلي» بدا أن الاستخدام السياسي للدين يتعارض مع القراءة النقدية للنصوص التي يسعى المتشددون الى الحكم بواسطتها وإبعادها عن التداول المعرفي في آن، من جهة، وأن الدين يشكل كنزاً هائلاً للطبقات الاجتماعية المتشكلة في مصر أولاً وفي باقي انحاء العالم العربي، وأنها ستعتمد عليه اعتماداً واسع النطاق في المستقبل تبعاً لتبلورها وصعودها. ثمة مستويان في تناول الاستخدام السياسي للنص الديني. يقوم الأول على تفكيك عرى النص وإعادته الى مكوناته الأولى وإلى موضعه الدقيق من الدين كمنظومة قيمية. ومساءلة النص والتحري حول مصدره وتطوره. ومن الأمثلة الجريئة لهذه المقاربة كتاب جورج طرابيشي «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث: النشأة المستأنفة» (الصادر في 2010) والذي احيط بما يشبه الصمت المتعمد، في وقت لم يبدِ المؤلف اهتماماً بنقل بحثه الى حيز السجال الراهن حول الدين والسياسة. ووسط تدافع الفتاوى المدهشة في غرابتها، يجوز للقارئ المعني بأحوال مجتمعه التساؤل، مع طرابيشي في الموضع هذا، عن الخلفية التي جاءت منها كل هذه الأحاديث التي يستخدمها السلفيون في فتاواهم وعن كيفية انتشارها، والكثير منها «ضعيف» او «حديث أحاد» أو «غير مسند» و»موضوع»، بحسب التصنيفات الفقهية. هذا بعد اعادة طرح أسئلة عن العلاقة بين الأحاديث والوحي والاعتراضات على مد تفسير آية «إن هو إلا وحي يوحى» (النجم- 4) نحو مجالات شديدة البعد عن القصد القرآني. وأسئلة حول تعدد روايات السيرة النبوية وتضخمها مع تقدم الزمن وانطوائها على معجزات ووقائع وأحاديث جديدة. يضاف الى ذلك ما يأخذه كثر من الفقهاء على ارتباك سلاسل الإسناد لأحاديث راحت تظهر في القرون الهجرية المتأخرة وصولاً الى الإهمال التام لما يعرف ب «علم الرجال» الذي نشأ لتعيين المدى الذي يمكن فيه تصديق احد ناقلي الحديث بالعودة الى سيرته الشخصية وخصاله. وتُركت من دون دراسة أيضاً تلك القفزة الشاسعة بين أعداد الأحاديث التي اعتمد عليها الإمام مالك، الأقرب في الزمن الى البعثة النبوية (وليس فقهاء المذهب المالكي المتأخرين)، وبين تلك التي استخدمها الإمامان الشافعي وابن حنبل في العصر العباسي. ويمكن الذهاب أبعد بالإشارة إلى ان مسألة مثل لباس المرأة المسلمة لم تُحسم سوى في وقت متأخر جداً، من قبل شيخ الإسلام ابن تيمية في العصر المملوكي، ما يشير إلى بقاء الجدال دائراً في شأنها مئات الأعوام. وليس سراً ان المقصود من هذه الكتلة الهائلة من الأحاديث التي لا يجري تأصيلها وفق الضوابط الشرعية المتعارف عليها، هو تبرير الموقف الاجتماعي الشديد المحافظة لتيارات الإسلام الحركي، على ما يبرز اليوم في مصر وبدرجة أقل في تونس. الأساس النظري للنزعة هذه هو رفض الفكرة القائلة بتطور الفقه عبر العصور الإسلامية والنظر إليه ككتلة واحدة متراصة منذ اليوم الأول لظهور الإسلام. يُعمي هذا التناول عن الاعتراف بالحقائق الموضوعية لتاريخ الإسلام وجماعة المسلمين كشعوب وأقوام طور كل منها مقاربته الخاصة للدين وفق ظروفه الموضوعية. تتكون هنا أسئلة عن الحق في تأويل النص الديني، القرآن والحديث، والجهة التي تتولى التأويل ومصدر شرعية الجهة هذه من الزاويتين السياسية والاجتماعية، ثم عمّن يحدد استخدام النص الديني وفي أي وجهة وسياق. وهذه اسئلة وجيهة للغاية طالما ان هناك من انزل النص الديني الى ساحة المعركة السياسية اليومية. المستوى الثاني في النظر الى الاستخدام السياسي للنص الديني، يقول بإمكان نقاش سلوك الجماعات الحركية نقاشاً يتركز على المفاهيم التي يقوم عليها الاسلام السياسي الحركي. وليس جديداً تحكيم الدين للفصل في نزاعات البشر. بل إن قسماً مهماً من الشريعة يُعنى بتنظيم العلاقات الإنسانية. وانتزاع هذه المهمة من الشريعة ليس مطروحاً في أكثر المجتمعات الإسلامية، حالياً على الأقل. لكن ما يمكن التوقف عنده هو ذلك التنافس الذي يسعى بعض السلفيين الى زج الدين فيه في مواجهة الايديولوجيات الوضعية. وفي هذا السياق، يحسن التذكير بما قاله الكاتب الإيراني داريوش شايغان حيال هذه المسألة إن: « الديانة التي تنزلق الى ساحة صراع الايديولوجيات الحديثة تتفجر وتُحطم، بتجاوزها سياج الدساتير الثقافية، البنى العضوية التي كانت تحفظ الصور الرمزية للفكر التقليدي. انما تتسلل الى عالم يتجاوزها تاريخياً، وتتلبس شكل الايديولوجيات الشمولية الاكثر تطرفاً، وتصبح رغماً عنها نوعاً من الفاشية الدينية. ان الشحنة الانفعالية للعاطفة الدينية عندما لا تتمكن من أن تتبلور في البنى القادرة على استيعابها تجد نفسها مجبرة اذّاك على أن تصب في قنوات أخرى، وبذلك تُمسح وتكشف عن مظهرها الظلامي». بكلمات ثانية، يضع المتدينون السياسيون مجتمعاتهم امام مآزق عميقة بإصرارهم على مزج المتعالي الديني بتصور أداتي بسيط الى حدود السذاجة لما يريدون من الدين، في وقت تزداد حساسية التناول النقدي للإسلاميين المتترسين بالنص المقدس وتكبر فيه خطورة التحديات الاجتماعية والسياسية. انها سلفية تقف عملياً ضد سلفية أخرى يجري طمسها وتغييبها.