لم يرسُ الجدل في شأن واقع الأغنية العراقية الراهن على برّ، بل تفاقم قاسماً المعنيين بين مؤيد ومعارض لتلك الصورة الراقصة التي تفتقد الكلمات الجميلة واللحن المؤثر. يرى الفريق الأول، أن المادة المُقدّمة رديئة وتشيع ثقافة مشوهة بين العراقيين، فيما يدافع الثاني عما يسميه «الحداثة» معتبراً أن ألوان الغناء السائدة تواكب الذائقة المعاصرة. ويرى بعض النقاد في ما يقدّم على الشاشة العراقية من أغنيات اليوم أنها «مرئيةٌ فحسب، ولا يمكن تصنيفها سريعةً أو خفيفة»، إذ في هذين الصنفين كلامٌ له معنى، مشيرين إلى أنها «محض صور تضج بكل شيء إلا الغناء». ويجتهد فنانون ونقاد عراقيون، ممن يُحسبون على جيل رائد، في استنكار ما يجري، لكن الذائقة الشعبية تجعل تنديدهم هذا في مهب الريح. فثمة أسطوانات تجد رواجاً في سوق الموسيقى العراقية. وتبعث المادة المقدّمة في أشهر الكليبات العراقية، رسائل محددة على صعيد القيم المجتمعية، وهي ما يركز عليه النقاد حين يراقبون المنتج على الفضائيات العراقية. ويجد فيها أنصار الفريق الأول «تحريضاً على العنف»، و»محاولةً لتسويق غزل عراقي» مشحون بالشتائم والإيحاء الجنسي المبتذل». يقدّم كتّاب أغنيات عراقية مثل «باك محفظتي (أي سرق محفظتي)»، و»أنعل أبو» و»الدفان يغمز لي» و»أخاف أشرب» و»أربع نسوان» و»اطلب المرحوم بوسة»، نصوصاً تجعل السرقة والشتيمة وامتهان المرأة سلوكاً طبيعياً، بل محبباً! وهذه الأغنيات ظهرت في «كليبات» يستعمل فيها الرقص بشكل مفرط، ويعمد مخرجوها إلى إشغال المتابع بلقطات تظهر مفاتن الراقصات وأجزاء من أجسادهن بشكل مباشر. ويبدو أن جمهوراً واسعاً تلقف هذه الأصوات والكلمات في سياق الصورة. تتنبه الشاعرة العراقية زينة الحلفي إلى ما سمتها إشارات مخيفة في أحد «الكليبات» تهدد الإرث الثقافي. وتقول في حسابها على «فايسبوك»: «الفيديو يصور في مكتبة عامة كبيرة (...) يريد المخرج أن يوصل فكرته، ليس من كلمات الأغنية فقط، بل من خلال الصورة. ويبدو أنه يستهدف محرّمات ثقافتنا ورموزها، ولن يحرك أحد ساكناً». وفي شوارع بغداد تصدح مكبرات الصوت أمام محال بيع الأسطوانات، بمثل هذه الأغاني وترتفع أصوات مسجلات السيارات على إيقاعها الراقص. ويقول جرير محسن (24 سنة) إن أغاني السبعينات والثمانينات لا تروقه أبداً، ويجد في موجة الأغنية الحديثة ملاذه، بل أنه يطرب لها. العنف يطغى على الغزل في أغنيات أخرى مثل «حرب حرب»، «العين الحمرة»، «احرك الجو (أحرق)» وغيرها، يظهر العنف طاغياً على الغزل، بل أنه وسيلته التعبيرية الجديدة. في الأغنية المصوّرة «حرب حرب»، يظهر المغني والملحن العراقي المقيم في الإمارات حسام كامل مرتدياً زياً عسكرياً، ويحشو في أحد المشاهد مسدّساً بالرصاص. وقد صبغ وجنتيه بالأسود كما يفعل رجال «الكوماندوز»، في حين أن الأغنية تهدف، كما يفترض كاتبها ومخرجها، إلى تعبير المغني عن رغبته في الزواج من فتاة. ويشتكي نقاد ومهتمون كثر، من إهمال المؤسسة الثقافية في العراق للأغنية العراقية، ويرون أن التساهل في تخريب الذائقة يرتبط بتوجه سياسي عام مستفيد من ذائقة نائمة أو مشوهة. لكن هذه المعارضة لا تجد مبررات كافية ومقنعة عند فريق آخر من الفنانين الذين يشبّهون ما تتعرض له الأغنية اليوم بما واجهته أغاني السبعينات. ويقول المدير التنفيذي لشركة «ميوزك الحنين» المنتج والموزّع الموسيقي سامر سالم إن: «الأغنية العراقية الراهنة تجد جمهوراً عراقياً وعربياً واسعاً (...). لا يمكن تقديم نمط موسيقي لا يسمعه أحد». ولشركة «ميوزك الحنين» قناة فضائية متخصصة بالأغاني العراقية، وهي واحدة من قنوات أخرى للغرض ذاته». ويبدو أن الخلاف حول رصانة الأغنية العراقية، هو في الحقيقة مرتبط بخلاف على تحولات غير معهودة في القيم الثقافية لدى جيل جديد في العراق، إلى جانب مؤثرات أخرى، قد يكون من بينها صراع الأجيال.