بانت علامات الإعجاب والشغف على الجمع المحتشد توقاً لمشاهدة مظاهر تراث أزاحته قفزة التطور البشري ومتغيرات طرأت على المنطقة، عن شعب ما زال يقطن هذه البلاد منذ آلاف السنين ويصر على البقاء على رغم الهواجس. ففي ناحية عنكاوا (شمال إربيل)، التي باتت مقصداً للآلاف من مسيحيي العراق الباحثين عن حياة آمنة من العنف، كان المساء الخريفي على موعد مع مهرجان التراث السرياني الذي بات تقليداً سنوياً لاستعادة ثقافة مجتمعات اشتركت في الدين وتوزعت في البلاد، لكنها اختلفت على أسلوب الحياة في مجالات الفن والصناعة والزراعة، وصولاً إلى كل ما يتعلق بالمأكل والملبس. الاحتفال جرى ضمن الاسبوع الثقافي السرياني الخامس الذي نظمته المديرية العامة للثقافة والفنون السريانية في حكومة إقليم كردستان بالتعاون مع نادي «شباب عنكاوا» الاجتماعي، وانتهى بالدعوة إلى المشاركة في إحياء التراث باعتباره «واجباً وطنياً وقومياً للحفاظ على تراث هذا الشعب وثقافته ولغته». وتضمنت النشاطات التي أعدّتها شخصيات كردية وعربية وأجنبية، استعراضاً للأزياء الفلكلورية الشعبية المتنوعة من مختلف المناطق التي قطنها مسيحيون، كما رفع الستار عن جداريتين فنيتين تمثل إحداهما الملك حمورابي، سادس ملوك بابل القديمة وصاحب أقدم الشرائع المكتوبة في التاريخ البشري، والثانية لموسيقيين من بلاد ما بين النهرين. إضافة إلى استعراض الطقوس في احتفالات الزواج، حيث يحمل شبان وشابات صندوقاً يحتوي على متعلقات العروس، وسط زغاريد وقرع طبول وعزف على المزمار، ليتقدم العروسان، بالزي التقليدي، ممتطيين فرسين، فيحيط بهما المحتفلون وتبدأ «الدبكة» الشعبية التي ما زالت معتمدة إلى اليوم. وبعد تفرّج الجمهور على صور فوتوغرافية تعود إلى خمسة عقود، اتجه الجميع إلى مائدة عامرة بنحو 20 نوعاً من الأكلات والحلويات الشعبية، وتابعوا عملية سلق الحنطة في قدر عملاق وبقربه خبّاز يعد خبز التنور، وحائك على مغزل قديم. ويقول خالد بهنام (58 سنة) الآتي من إحدى البلدات المسيحية في سهل نينوى ل «الحياة» إنه عايش «بعضاً مما استُعرض في المهرجان، وبعض الطقوس كانت لا تزال حية حتى 15 سنة خلت... أعادتني الأجواء إلى زمن الطمأنينة والحياة البسيطة البعيدة من التعقيد»، ويضيف: «ترك المهرجان في نفسي شعوراً لم يراودني منذ سنوات، في زمن أصبح فيه الإنسان يفتقد راحة تنسيه الحروب والعنف والنزوح». أما فادي فوزي ( 15 سنة) فعبّر عن إعجابه بالمهرجان: «كنت سمعت من جدّي عن التقاليد وطبيعة العيش، أيام كانوا يعتمدون على الزراعة، ورسمت صورة في مخيلتي، تحقق جزء كبير منها عبر هذا النشاط».